قناديـلُ الحكايــــا يعدو الربيــع بعد الربيــع ويكبر البوح.. ( يمنع المنقول ) |
يعدو الربيــع بعد الربيــع ويكبر البوح..
( يمنع المنقول )
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||||||||||
|
||||||||||||
عيد ولكن ...
عيد ولكن ..
اليوم عيد الفطر المبارك ، الناس سعداء ، والنفوس مبتهجة ، والأطفال فرحون بملابسهم الجديدة ، انتظم الناس في مصلى العيد بانتظار الصلاة ، وخطبة الشيخ ( صالح ) بهذه المناسبة العظيمة ، وبعد انتهاء هذا المشهد الإيماني استقلَّ الجّدُّ سيارة ابنه الفارهة وهو يحمد الله في نفسه على أن مدَّ في عمره حتى رأى أحفاده حوله ، وهذه النعمة التي يرفل فيها ابنه ( عثمان ) . قال أحمد الصغير لجده بعد عودتهم إلى المنزل وهو يقبل رأسه ويستعيد في خاطره الجدل الذي دار بين أبيه وجده حول مخالفة الطريق وهم عائدون من الصلاة : ـــــ من العايدين يا جدي ، وكل عام وأنتم بخير . رد عليه جده مبتسما ومربتا على رأسه ـــــ بارك الله فيك يا حبيبي وضع الصغير أحمد غترته وعقاله على علاقة الملابس ، بينما جلس الجد على ( قعادته ) الموضوعة في غرفته الداخلية من بيت العائلة والمشرفة على الصالة . توافد بقية أفراد العائلة ، وقبلوا رأس جدهم باحترام ومحبة قائلين له : ـــــ من العايدين يا جدنا الغالي ، الله يعيده علينا وعليك بالخير والعافية . رد عليهم الجد بحنان ودعاء كريم : ــــــ عيدكم سعيد ، والله يوفقكم دنيا وآخرة . فتيات العائلة يتحركن بهمة ونشاط ويقمن بإعداد طعام الإفطار ، بعد دقائق جاء بندر داعيا جده إلى سفرة الطعام المعدة : ـــــ هيا يا جدي ، الفطور جاهز ، تعال هنا ، اجلس جواري . نظر الجد إلى أصناف الطعام وهو يرى أمامه أشياء غريبة على السفرة ، جبنة ، مربى ، زيتون .. حلاوة طحينية .... ، أصنافا لم يتعود أن يراها في مثل هذه المناسبة . قال حفيده أيمن : هيا يا جدي باسم الله . مد الجد يده إلى رقائق موضوعة في صحن بلاستيكي وسأل : ـــــ ما هذا ؟ ! . ـــــ شبس . ـــــ هـه ...والله عشت وشفت الناس يأكلون ( امجبس ) . ثم مد يده إلى صحن آخر فيه دوائر غريبة ـــــ وهذا ؟ ! . ـــــ مورتديلا . ـــــ تريلا ! ـــــ يا جدِّي ... هذي أطعمة ومأكولات حديثة تنهد الجد بحسرة وهو يقول : ـــــ إيه .. الله يرحمك يا ذاك الزمان .. أقول لكم : ( هَبوا ) لي كِسرة عيش و( شوية ) إدام . . قال كلمته تلك وهو ينهض متجها إلى غرفته ليستقر متكئا على قعادته ، ويرحل إلى الزمن الجميل . نظر الجد إلى سقف غرفته مسافرا بفكره إلى الماضي ، وكأن شريطا من الذكريات الجميلة يمر أمامه ، لا يقطعها عليه إلا مرور أحد أفراد العائلة متجها إلى غرفته ليلقي بجسده الذي أنهكه السهر على السرير . ـــــ يا ألله .... هذا بيتنا القديم ، وهذه أزقة حارتنا القديمة .. في ليلة العيد تتحول البيوت إلى حركة نشطة ، النساء يجملن الدور استعدادا لزيارات المعيدين ، ويفرشن البطانيات على القعايد المطلية بألوان زاهية من ( البوية ) ، ويكسين المخدات بأكياس قماشية ملونة ومزينة بشرائط من الدانتيلا المشغولة ، يرتبن الفناجين ودلال القهوة وأطباق الحلويات المحلية الصنع على الطاولات الخشبية ، ويصففن آنية العطور والعود والمباخر على طاولات أخرى ، ولا يغمض لهن جفن حتى يتأكدن من اكتمال لوازم البهجة في دورهن الشعبية العتيقة . من الأزقة الضيقة يخرج الرجال إلى المصلى لأداء صلاة العيد ، بعضهم يمسك بطفل صغير يرفل في ثوبه الجديد ويتزين بغترة وعقال جعلته مرتبكا كثير الحركات ، يحافظ عليها من السقوط كلما هبت نسمة صباحية ، بعضهم ترك طفلتين تبكيان ورفض اصطحابهما معه . هذا بيت عيسى ، وهذه عُشَّة حَسْنة ، وهذا العم سالم الميسور الحال ؛ لأنه يملك دكانا لبيع المراكب وأدوات البحر ، يرتدي ثوبه الجديد وعمامته المزركشة ، وحذاءه المستورد من عدن ، الذي كلما داس عليه أصدر بعض الأصوات التي تلفت أنظار الناس إليه فيبادرونه بتهنئة غامرة : عيدك مبارك يا عم سالم ، وملبوس العافية إن شاء الله . بعد انقضاء صلاة العيد يتبادل الرجال عبارات التهنئة ويتعانقون تعبيرا عن المحبة ، ثم يعودون إلى بيوتهم مشيا على الأقدام ، ويقطعون المسافة بين المصلى وبيوت الحارة بأحاديث المودة وضرب المواعيد لزيارات متبادلة . في الصباح الباكر لأول أيام عيد الفطر المبارك تنهمك النساء في إعداد وجبة الإفطار ، فترى الأدخنة تتصاعد من أحواش الدور الشعبية و( العِشَش ) ، وروائح الخبز والشواء تداعب أنوف المارة . تقف النساء خلف ( الموافيه ) يشعلن النار في حطب السَّلَم ويتركنه يتقد حتى يصبح جمرا ، ثم يقرِّصن عجين الحَب ( الذرة الرفيعة ) المخمَّر أقراصا من العيش الحامض ، أو أقراصا من عجين الدقيق الأبيض ، ثم يضعن تلك الأقراص على أكفهن المحناة ، ثم يولجنها في فوهة التنور ويخبزنها بسرعة في جانبه ، ثم يضعن أسماك العربي المُمَلَّحة في قاعِهِ . بعد الإفطار يبدأ الرجال رحلة التزاور والمعايدة فيما بينهم .. تتعالى أصواتهم وصيحات نداءاتهم على أبواب بعضهم : ـــــ يا بو ....... ـــــ ( أقْدُمْ ) .. أقْدُمْ .. ويبدأ العناق بين المهنئين ، فيتواصل المتباعدون ، ويتصالح المتخاصمون ، ويجتمع المتفرقون ، وتصفو القلوب ، وتزهر الابتسامات البيضاء على الشفاه . يسكب الزائرون كؤوس التهنئة الحارة ، ويصب صاحب الدار القهوة في فناجين فخارية جميلة ، أو يسكب الشاي الأحمر في كاسات زجاجية صغيرة منقوشة بماء الذهب ولها مقابض زجاجية صغيرة ويقدمها لزائريه ناثرا فُلَّ الكلام ـــــ أهلا وسهلا ، زارتنا البركة ، عيدكم سعيد ومبارك إن شاء الله . يتنقل المعيدون بين البيوت حتى يقترب الظُّهر فيعودون إلى منازلهم ببطون متخمة ، وحموضة فاضت إلى الصدور مما شربوا من أشربة وأكلوا من أطعمة وحلويات ترضية ومجاملة لمضيفهم . أطفال وطفلات الحي ينتشرون في الأزقة ، يطرقون أبواب الجيران ، يقدمون التهنئة لأهل الدار ، ويحصلون على هدايا العيد من حلويات أو نقود ، ثم يخرجون إلى الأزقة ؛ ليعبروا عن سعادتهم بالعيد بإشعال ( الطراطيع ) ، أو إنفاق عيدياتهم في المراجيح الشعبية المنصوبة في ساحة الحي الواسعة . عصرا يخرج النساء في ملابسهن الزاهية ، وزينتهن الجميلة من كحل وحناء ( وحُسْن ) ، وأطيابهن وزهورهن الفوَّاحة من فُلٍّ وكاذٍ ( وبعيثران ) ؛ ليزرن بعضهن بعضا ، أما الرجال فيجتمعون في أماكن فسيحة خارج الحارة لممارسة بعض الألعاب أو الرقصات الشعبية ابتهاجا بالعيد السعيد . آاااااه يا ذاك الزمان ! . خرج الجد من بحر ذكرياته بآهة وحسرة على زمن طويت سجلاته ، وعادات يبست أوراقها ، وبهجة أفلت في غَيابة الماضي رافعا صوته مناديا حفيدته : ـــــ يا داليا ، هَبي لي وأنا جدك فنجان قهوة ( بحرة ) ، الله يرضى عليك لم يرد عليه أحد ؛ لأن الكل قد غط في نوم عميق ؛ ليستيقظ ليلا ، ويعاود السهر من جديد . عاد إلى قعادته وفي قلبه غصة طازجة ، وعلى شفتيه الجافتين أربع كلمات مرتعشة : ( الله يرْحَمِكْ يا فاطَمْ محمِّدية ) . *** الغيث حصري للمزيد من مواضيعي
المصدر: منتديات مدائن البوح
علمتني الحياة أن أبني جسرا من الأمل فوق أي بحر من الأحزان
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
مقتطفات من كتاب « لأنك الله » | زهرة | المكتبة الأدبية ونبراس العلم | 15 | 06-22-2022 03:15 PM |
المُذنَّب حسَّان | الغيث | قناديـلُ الحكايــــا | 21 | 08-10-2021 02:40 AM |