قناديـلُ الحكايــــا يعدو الربيــع بعد الربيــع ويكبر البوح.. ( يمنع المنقول ) |
يعدو الربيــع بعد الربيــع ويكبر البوح..
( يمنع المنقول )
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||||||||
|
||||||||||
بدل ضائع
بدَل ضائع
في ضاحيةٍ من ضواحي تلكَ المدينةِ، وبعدَ بحثٍ مريرٍ، وجدتُ نُزلاً فقيراً تملؤهُ رائحةُ العفنِ. لكنَّهُ كانَ جيِّداً بالنسبةِ لي، فهو يتماشى مع مردوديَ الشَّهريِّ. استأجرتُ غرفةً من المالكِ. إنَّهُ رجلٌ هرِمٌ، أصلعُ الرَّأسِ، لهُ لحيةٌ مبعثرةٌ لم يعاينْها حلَّاقٌ لسنواتٍ. وكيفَ لي أن أصفَ حالَهُ؟ وقد كانت حالتي تفوقُهُ فوضى، وقميصي لم يرَ المكواةَ منذُ زمنٍ. إنَّني وحيدٌ هائمٌ لا أعرفْ تاريخَ ميلادي الحقيقيِّ، وهل تمَّ إخراجي إلى هذا العالمِ بعملٍ جراحيّ،ٍ أم أنَّ امرأةً مجهولةً دقَّت حبليَ السِّريَّ بحجرٍ وفصلتني، لتتركني للشَّارعِ، أصارعُ القططَ على لقمتِها. طفولتي لم تكنْ كباقي الأطفالِ، كبرتُ وحيداً أتلقَّى الصَّفعاتِ، وأتنازلُ عن كلِّ شيءٍ في سبيلِ الحياةِ. لطالما أحسستُ بالقلقِ والضَّعفِ، وبأنَّ هناكَ من يلاحقني كظلِّي، ولا أنعمُ بالسَّلامِ. استلقيتُ على السَّريرِ الوحيدِ، ملاءتهُ تناسبُني فقد كانتْ مرتّقةً حزينةً، تفتحُ للهواءِ ثقوباً يتغلغلُ منها. ماهيَ إلا لحظاتٌ حتَّى فُتحَ البابُ ودخلَ شابٌّ أنيقُ الهيئةِ، وسيمٌ، تعلو وجههُ أماراتُ الراحةِ والاستقرارِ. ملأتْ رائحةُ عطرهِ الأجواءَ، وساعةُ يدهِ تنقرُ بلطفٍ. يبدو أن الآلهةَ اعتنت بطفولتهِ جيِّداً. قالَ: أنا شريككَ هنا. فتحتُ فاهي باستغرابٍ لأنَّ المالكَ لم يخبرني شيئاً من هذا القبيلِ، ولأنني أتعجَّبُ لوجودهِ في هذا المكانِ الوضيعِ. تجاهلتُ الموضوعَ وأغمضتُ عينيّ... قالَ بلهجةٍ حادّةٍ: مكانُك على الأرضِ. لم أناقشْ، فقد اعتدتُ على مدى أربعينَ عاماً ألّا أعترضَ، لأنَّ نصيبي من الحياةِ هامشُها. نزلتُ واستلقيتُ على اسفنجةٍ مهترئةٍ تملؤها البراغيثُ والحشراتُ. عندَ منتصفَ النَّهارِ بدأت معدتي تستغيثُ طلباً للطّعامِ. وقفتُ منهكاً، وقد حانَ موعدُ عملي. إنني أجمعُ قمامةَ بعض حاناتِ المدينةِ، وأنظِّفُها من بقايا الليلةِ الفائتةِ، إنَّ أجري لا يقي من جوعٍ، لكنَّني أحصلُ أحياناً على إكراميَّةٍ من بعضِ روَّادها اللذينَ يقبلونَ مبكِّراً. أمشي عدةَ أميالٍ شاردَ الذِّهنِ أناقشُ نفسي وأخرجُ خاسراً من حديثٍ عقيمٍ. أنهي عملي بتثاقلٍ وأحصلُ على أجري اليوميِّ، فأعودُ ليلاً. أسمعُ دائماً تلكَ الخطواتِ خلفي. أطوي الطَّريقَ المعفَّرَ بسرعةٍ. يدخلُ التُّرابُ من شقوقِ حذائي فيلتهبُ إبهامي، ويصرخُ وجعاً. ألقي تحيةَ المساءِ على المؤجِّرِ العجوزِ الذي لا يعنيهِ الأمرُ، وأدخلُ صامتاً إلى وكري. أرى شريكي يحدِّقُ بي ولا يرفعُ نظرَهُ عني حتى أغطَّ في نومٍ عميقٍ. تبدو الأيامُ متشابهةً، فلا يدورُ بيننا حديثٌ. مرَّ أسبوعانِ على ذاتِ الحالِ. كلّ يومٍ ذهاباً وإياباً في طريقي الى عملي المملِّ والمقيتِ، تتبعُني الخطواتُ، تحاولُ اللحاقَ بي. أما اليوم، وعلى غير عادتي لن أنظرَ خلفي، لأنني عرفتُهُ من رائحتِهِ. تساءلتُ بخوفٍ ماذا يريدُ؟ يراقبني حتى باتَ بؤبؤا عينيهِ ملتصقين بي كيفما تحركتُ، يتحرَّشانِ بكاملِ جسدي... ولم يكن باستطاعتي ردعهُما.في تلكَ اللّيلةِ، كانَ القمرُ يرسلُ ضوءَهُ عبرَ النَّافذةِ الوحيدةِ، وأنا شاردُ الذِّهنِ، أستحضرُ لحظاتٍ كنتُ قد مررتُ بها سابقاً في زوايا الشَّوارعِ المهجورةِ، التي احتفظتْ بصراخِ طفلٍ صغيرٍ لا أحدَ تحرَّكَ لنجدتهِ. أمّا هوَ فقد كانَ يجلسُ ببرودٍ يضعُ رِجلاً فوقَ رِجلٍ ويخطِّطُ لشيءٍ غريبٍ، هكذا يقول جسدهُ. حاولتُ الهروبَ مما قد يبدرُ منهُ، لكنَّني تسمَّرتُ في مكاني. تفوَّهَ بكلماتٍ لم أفهمْ كُنهَها، ذُعرتُ. أخفيتُ شعوري بصعوبةٍ، أدرتُ ظهري كي أتفادى نظراتِهِ... كلّ يومٍ أستيقظُ صباحاً لأرى نظراتِ الوعيدِ تهدِّدُ سكينتي، وتفترسُ نهاري. بدأتُ أعدُّ الأيامَ كي تأتي لحظةُ الانعتاقِ منهُ ومن نفاياتٍ تدورُ في داخلي. اليومَ ليلاً سأجمعُ قوايَ وأتحرَّرُ من سجني. أتى اللَّيلُ سريعاً، وهو جالسٌ على حافةِ السَّريرِ. أشعرُ بهِ يخطِّطُ لأمرٍ خطيرٍ. قفزتُ بسرعةٍ، وبدأتُ ألفُّ الملاءةَ المرميَّةَ كحبلٍ. وبلمحِ البصرِ غافلتُهُ وعلَّقتُها بحلقةٍ معدنيَّةٍ تتوسَّطُ السَّقفَ. دارَ بيننا عراكٌ صامتٌ إلا من لهاثٍ كالهررةِ. تفوَّقتُ عليه لألفَّها حولَ عنقهِ بحركةٍ واحدةٍ، وسحبتُ طرفَها المتدلِّي بقوَّةٍ فارتفعَ عن الأرضِ، وبدأتْ رجلاهُ بالتَّأرجحِ. وأنا أشدُّ وأشدُّ حتى انقلبَ فضاءُ النُّزلِ أبيضَ ناصعاً، خالياً من أي حدودٍ. تحولتُ حينها إلى ندفةٍ قطنٍ يطيِّرُها الهواءُ بخفَّةٍ إلى الأعلى. لاشيءَ سوى البياضِ، ويدي تقبضُ على قارورةِ العطرِ الوحيدةِ التي أتعطَّرُ منها كلَّ صباحٍ للمزيد من مواضيعي
المصدر: منتديات مدائن البوح |
07-05-2024, 09:41 PM | #2 |
|
رد: بدل ضائع
بسم الله ماشاء الله
سرد جميل .. لكن بحاجة لقراءات حتى نستوعب الجمال .. لي عودة بإذن الله .. للختم والمكاف أة والتنبيه |
|
07-06-2024, 12:19 AM | #3 |
|
رد: بدل ضائع
.
. سردية وارفة ملآى بالتفاصيل من قساوة الحياة وجور الظروف القفلة جاءت جميلة أهلا بقلمك وجمال القصصية منك حيّاك أيها الأنيق تم المكافأة |
|
07-06-2024, 10:12 AM | #4 |
|
رد: بدل ضائع
بدل ضائع
يعيش السارد وضعيا نفسيا وماديا مزريا منذ طفولته البائسة، وعندما يؤجر غرفة في نزل يفاجأ بشاب غريب يشاطره المكان، ثم يضايقه ويلاحقه فيقرر التخلص منه، فيشنقه ويستولي على أغراضه. تدور فكرة النص حول الصراع النفسي الذي يخلقه الشعور بالضياع والرغبة في التعويض والاستبدال، وهي أقرب إلى تيار الوعي، وسبق التطرق إليها كثيرا خصوصا لدى المدرسة العبثية في الأدب، إلا أن الكاتب طرحها بأسلوب ينتصر للفعل الإنساني المتجاوز لواقعه السلبي. يعد العنوان " بدل ضائع" مفتاحا للنص ووسيلة لسبر أغواره، فالبدل من الشيء الخلف والعوض، وبدل تأتي أيضا بمعنى شريف أو كريم، وما يعانيه السارد نتيجة لضياع العوض المناسب والكرامة البشرية. يستعمل الكاتب اللغة بشكل فني يخدم الإطار العام للقصة، فيورد عبارات تغذي الشعور بببؤس واقع السارد (نُزلاً فقيراً تملؤهُ رائحةُ العفنِ- أصارعُ القططَ على لقمتِها- مرتّقةً حزينةً، تفتحُ للهواءِ ثقوباً يتغلغلُ منها- اسفنجةٍ مهترئةٍ تملؤها البراغيثُ والحشراتُ )، ويرسم صورا فنية جميلة (ملاءتهُ تناسبُني فقد كانتْ مرتّقةً حزينةً، تفتحُ للهواءِ ثقوباً يتغلغلُ منها- وساعةُ يدهِ تنقرُ بلطفٍ) يلقي المكان بظلاله القوية على الأحداث منذ البداية: تلك المدينة، وتلك اسم إشارة للمفرد المؤنث البعيد، والمدينة معروفة جيدا للسارد وشاهدة على كل تفاصيل حياته الماضية، بل إنها شريكة في واقعه البائس، لذلك فهو ينعتها بالحقارة فلا يظهر إلا قبحها ( النزل العفن- الحانات وقماماتها- الشارع المعفر بالتراب) وظف القاص امتداد زمن السرد وتقلص زمن الحكي، وتداخل الأزمنة ليرسم الملامح النفسية للشخصية الرئيسية، التي تتطور من حالة الضعف والضياع إلى الحسم والقوة، وفي حين ركز على الأوصاف الجسدية لشخصية صاحب النزل، في لمسة فنية من السارد لوصف مظهره الخارجي بطريقة غير مباشرة عبر المقارنة ( حالتي تفوقُهُ فوضى) ينساب الحدث بسلاسة وتتأزم العقدة ثم ينبعث الحل على نهاية مغلقة لا تتيح مجالا للتأويل لكنها متماهية مع عنوان النص وطبيعة تطور الشخصية الرئيسية. كما أن اعتماد تقنية الثنائية والتضاد بين السارد وشريكه المتخيل، ساهم إبراز حدة الصراع النفسي والتوتر. تحافظ الحبكة المتصاعدة على تماسك النسيج القصصي، وتترابط أجزاؤها بإحكام. تتميز القصة بطابعها السيكولوجي وغوصها في عمق النفس البشرية من خلال تقنيات القصة القصيرة (التضاد- الاسترجاع- تداخل الأزمنة) وتوظيف الصراع النفسي لشخصية مهمشة، إلا أن نهايتها المغلقة قللت من حجم الانطباع والأثر المؤمل من نص يستوفي معظم عناصر وتقنيات القصة، ويحقق المتعة والتشويق. شكرًا أخي الفاضل لأنك هنا ومزيدا من القصص الجميلة التي تنال الذائقة ومن ثم نسترسل بقراءتها لك |
التعديل الأخير تم بواسطة الْياسَمِينْ ; 07-06-2024 الساعة 10:15 AM
|
07-06-2024, 10:51 AM | #5 |
|
رد: بدل ضائع
،،
،، عشت الشخصية وتقمصتُ الدور حقيقة الكاتب البارع هو من يجيد تقمص البطل والسرد الذي يأتي على لسان الشخصية من أجمل السرود وهنا تظهر براعة الكاتب ويستخلص من الشخصية الحالة النفسية يُعَمّق المفردات النصية ويعايش الشخصية بمكوناتها النفسية وبحرفية ينقل النص في عمق القارئ لعيش هو الآخر ذات الشخصية ،، ، ــ سلاسة ــ عمق . ــ تفاصيل مبسطة ــ حبكة ،، قرأت حرفاً حرفا ما شاء الله ،، ، تحياتي |
|
07-06-2024, 11:49 AM | #6 |
|
رد: بدل ضائع
وتبقى الحيرة ... حصانك الأسود
حيرة القارئ ... وحيرة بطل القصة ... صراع نفسى حاد ... بين الأنا ... والأخر ... الذى أعتقد غير موجود ... أو هو الأنا كما تمنت أن تكون ... أو ما وصلت إليه بما لم تحب الوصول به ... فكان حتما لابد من مواجهة ... وخلاص نهاية حزينة ... أو ربما ستكون هناك إفاقة وعودة من جديد ... بعد الكثير من الأقصاء والترتيب وربما لتقبل النفس أخى فاضل أعجبتنى كلماتك وأسلوبك وأبهرنى تناولك من الداخل لصراع نفس ... وبحرفية وضعتنا خارج الدائرة لنعتقد أننا نرى أكثر بتعمدك إخفاء الكثير من التفاصيل تجربة قرائة ممتعة حفظكم الله |
وهــــى ...
نبضة من عمــــــــرى ... فى بضع لحظا ت أكتبهــــــــــــــــا وأحتــــــــاج ... أكثر من نبضتيــــــن كى أرويهــــــــا فكـــم ... بعـــــــدى ... من لحظــــــات أعماركم ... ستذكرنى نبضاتكم بحروف ترسمنــــى معانيها محمد محمود
|
07-06-2024, 09:32 PM | #7 |
|
رد: بدل ضائع
من أروع ما قرأت وبالعادة أنا أمل من التفاصيل ودش الكلام ولكن استطاع الكاتب
أن ييهرنا ونتابع كل سطر ونقرأ بلا ملل نجح الكاتب قي إيجاد شخصيات تشاركه نمط حياته ومن بيئته صنع جواً مثيراً السرد كان مشوق وهذا يعتير من أهم المهارات التي يجب أن يتقنها الكاتب ويتميز بها عند كتابة القصة استطاع الكاتب بكل اقتدار أن يتواصل مع القراء بطريقة جذابة وأكثر تأثيراً وجعل القارئ مشدودًا حتَّى آخِر سطر ومابين السطور ومزج ما بين الأسلوب الترفيهي والقصصي والخيالي نجح في توصيل الفكرة والبيئة والحبكة والسرد تعجبني هذه القصص وتعلق بالأذهان وتلاقي رواجاً بين القراء شكراً لك أيها الفاضل وقد عشنا الزمان والمكان معك حتى النهاية |
|
07-07-2024, 11:42 AM | #9 |
|
رد: بدل ضائع
يا لها من قصة هائلة العاطفة والتكوين تطلق العنانَ للسان القلب ليفيضَ عطرا بما في جُعبته من مشاعر فهي التي تخترقُ حجابَ القلب الحصين الذي لا يقدر على النفاذ إليه مئاتُ الأسطر الأدبية البليغة أبحرت بصحبة سموكم فاكتشفت أن للروح أناقة تعطر الأجواء
|
|
07-11-2024, 01:45 PM | #10 |
|
رد: بدل ضائع
القصة تتقن استخدام اللغة والرموز بطريقة فنية لتعبر عن الصراع الداخلي
والبحث عن الهوية، مما يجعلها قصة مؤثرة وتستحق الاطلاع عليها والتأمل في رموزها ومغزاها العميق. أبدعت أيها الفاضل الفذ |
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|