قناديـلُ الحكايــــا يعدو الربيــع بعد الربيــع ويكبر البوح.. ( يمنع المنقول ) |
يعدو الربيــع بعد الربيــع ويكبر البوح..
( يمنع المنقول )
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||||||||
|
||||||||||
الموتى لا يتكلمون ..
لم أستيقظ هذا الصباح هنا .. وملامح الدنيا كانت بقياس آخر ، لا يستوعبه البيت ولا الشارع ولا كوكب الأرض ، وتلك العيون بدمعها تبكي من حولي بصمت ، لم تعد تبصرني وأنا أحلق أحلق في الفضاء لأول مرة أشاهد كوكب الأرض من علو ، وسور الصين العظيم كيف يتلوى ، وسطوع مكة . وشاهدت البحر يبتلع كل شيء ، وكيف أن الشمس لم تعد تحرق كما كانت أشعتها ، فبعد الموت تفقد سميتها وتزدان . لقد مضى على موتي سويعات ولم يعد بإمكاني أن أخاطب أحبتي ، وأسألهم على جواب يكفيني الحيرة الكبرى بعد رحيلي ، وأذكرهم بأن أروع ما في هذه الأرض هو أن نحرص على ما فيها . بدوت أكثر ابتعاداً وكائنات أخرى من حولي ترافقني ، بدأت أرتعش رغم أن الملائكة نورانية من حولي وريحها من مسك ، لم أألف على تنفس المسك عوضاً عن الأكسجين ، ولا وجود للظلام في رحلتي ، ولا وجود للشياطين حتى ، الأفق حولي ينجلي والنور يطغى ، لكنني لا أزال أيضا مشدوداً للخلف لفراق أرضي ، أهلي ، أصدقائي . لا يزالوا يبحثون عني وعن عنوان منزلي الجديد ، عن حدود قبري البعيد ، فحين أموت لا أخذ معي غير عبراتي التي لن يراها أحد ، تسقط من جسدي تتفرق في الفضاء . وهاهم زملائي في العمل وكل من عرفتهم ، يعتصمون الآن أمام منزلي يطالبون بوسيلة لتوديعي ، الكل يريد مشاهدتي لآخر مرة ، ولكنني ابتعدت كثيراً قبل مصافحتهم جميعاً ، ينتابني شعور الآن أكثر ظلماً لمن أحبهم من أي وقت آخر . شعرت حينها أن كل هؤلاء صدقاً كانوا لأجل لا شيء محدد سوى محبتهم لي ، والتي أراها بتحية حارس بنايتنا يرددها على مسمعي : بسمتك أفضل جرس يوقظ ابتسامتي كل صباح ، في كل منحنى شارع كان لي صديق ، في كل ركن مسجد ، على طاولات المقاهي هناك الكثير . كنت جيداً عندما أتكلم بعيني أختصر الكثير من الحديث ، بعض الصمت مشحون بالضجيج ، ونظراتي كانت رسائل صادقة وكامنة لدى رؤيتهم . الكل يفتقدني هذا اليوم جيراني ، عامل النظافة في حيّنا ، حتى سائق الأوتوبيس الذي أركبه كل صباح ، يعرف منزلي جاء برفقة القابض يودعني ، ولا أحد من أهلي و أقاربي يعرف هؤلاء الزوار ، ولكنهم أيقنوا كم كنت محبوباً ، و كان حضورهم المكثف مواسياً لهم و معذباً لي . كنت أراهم جميعاً ، كم أحن اللحظة لأن أربت بأصابعي كتف هذا وأمازح ذاك ، وهناك وسط الجموع ، رأيت جفون امرأة أحبتني ولم تعترف لي مبتلة ، تساءلني عيناها : لما يموت الذين نحبهم قبل أن نخبرهم بحبنا لهم ؟.. جارتي التي لا أولاد لها صرخت كيف رحل ؟!.. ليس الغرور من أنطقني وأنا ميت ، لكنها لهفة قلوبهم لاستعاد وجودي الذي لم يفارقهم ليوم ، لم أكن صاحب فضل عليهم ، كل ما أفعله لهم هو أنني كنت أمنحهم الحب بضجيج ، بقدر ما منحوني إياه بصمت .. كنت كلما صادفت أحدهم تحدثت عنه بدلاً عنه ، أفشيت له مبتسماً بما أقرأه على عيناه ، ليعانقني بفؤاده الذي يغمره الفرح ، ثم يرقص بأنامله على كف يدي حين يصافحني ، لذة شعور الآخرين بالامتنان حين تجول بأعماقهم ، حين تشعر بهم وتعري ما يفكرون به وهم سكوت ، أشبه بباقة ورد يهدوك إياها عند كل مصادفة ولقاء ، إحساسهم بانقضاء أجل هذا الامتنان ، هو الذي أعطاني الشعور بأنهم افتقدوني ، لهذا أتوا وأنا ميت ليحتضنوني . حتى قطة أختي الصغرى كانت دائماً تزعجني / توقظني وأنا نائم ، وأنا أصرخ فيها أذهبي عني ، رأيتها اليوم في ذلك الركن منزوية ، تود أن تهمس لي وتقسم أنها كانت تداعبني . وأنا أطوف بالكل وهم لا يعلمون بوجودي ، لأشاهد آخر من مرو على عمري من الضيوف ، في حزن أرقب صديقي " أمجد " أكثر الذين أحبوني من الرفاق ، وهو يهوي على ركبتيه لم يصدق رحيلي ، لم أرى دموعه يوماً إلا اليوم حزناً لفراقي ، وهناك " سلوى " الصغيرة بنت الجيران ، تقف خلف الباب وحيدة وتبكي ، ربما لأنهم يبكون . أهلي لا أريد أن يلمحوا هذا الكلام ، ولا أريد لهم أن يتأهبوا لهذا الشعور قبل أن أرحل ، هذا الوجع سوف يأتي وكم يؤلم طويلاً ، وكم يتعب حبيبتي الجميلة جداً ، لا أريدها أن تسمع عني أني مت ، تعمدت أن أقسو عليها أكثر كي تكرهني أكثر لقد انفصلنا قبل موتي بأسابيع ، ولكم كان سهلاً علي كرجل مجنون أن أقنعها مثلاً : أن امرأة أخرى ولجت حياتي وأنني الرجل الخائن وأن الأحلام التي حلمناها معاً لا تبتث للواقع بصلة ، وكل هذا لكي لا تحزن عند موتي فلا أطيق بكائها ، كنت فعلاً أحتاج لصفعة وأنا ميت ، لم أكن في نظرها كما يجب في مستوى الحب ، لقد ضحيت وحين تضحي يجب أن تتقبل الخسارة وتستعد لها دون أن تشكو من أنك تخسر . سأعترف الليلة أنني خسرت امرأة أحبها وليتها كانت معي زوجة ، ربما كنت سأهبها مني قبل أن أرحل طفلاً هدية ، قلباً يؤنسها ، في دمه نبضي إلى آخر العمر . لست أدري لم لم أفكر قبل اليوم في روعة الأطفال ، وقد كنت يوماً ما طفلاً ، أشعر بإحباط مضاعفاً حينما آخذ معي كل ما أملكه في داخلي ، ثم أرحل دون أن أترك مني لهذا العالم شيئاً ، دون أن أورث من جيناتي لهذا الحب أبسط شيء ، لا أخلف أدنى إشارة تقول للتاريخ أني هنا ، ومن هنا مررت وهذا اللون كلون عيوني . اليوم أموت جليداً ، وكم أشعر بالوحدة ، وكم أشعر بالفراغ ، لهذا أخبو حباً دون خصوبة ، إن الحب الذي لا ينجب الأطفال بشوق هوا حب عقيم ، لكن لا أظن حبيبتي فكرت يوماً بذلك ، ولم يأتي بالحسبان أنني سأموت بهذه اللحظة ولا أترك لها شيئاً ، لكن حينما تتعود حبيبتي ذات يوم على غيابي ، سترى أنني لم أخطيء بشيء في حقها ، بقدر ما أخطأت بحق نفسي ، وأنني بصدق منعت عنها حرقة حزن ، قد تلازمها بسبب رحيلي إلى ما تبقى لها من نصيب بعدي ، لا يراني أحد هنا وأنا أبحث عنها بين الحضور ، لأعترف لها أن الحب جميل ، وأن الثقة فيه هي الأجمل . أنني ميت وأكثر الذين يجولون ببالي في آخر لحظاتي هم اللذين أحبهم . رأيت أمي فقبلت رأسها وأنا ذاهب على عجل ، قبل أن تسبق دموعي خطواتها ، تأتيني رغبة في البكاء كوني سأنام طويلاً ، وسأشتاق كل نبضة من روحها ، وكم أود تقبيل جبين أبي الممتلئ بتجاعيد الكون حزناً لفراقي ، كم تمنيت حينها أن أتأسف له كون رحيلي سبب له كل هذا الحزن .. أنا أبتعد لا أريد أن أفكر الآن بوحشة القبر ، ولا بعقاب الله ، أشعر يقيناً أن مغفرته وسعت كل شيء ورحمته تسبق غضبه ، وتلك الخطايا التي بيني وبين نفسي كم سألت ربي أن يقدرني على تحملها وأن يتجاوز عنها . لا زلت أبتعد و الأرض لم تعد تعنيني بشيء ، ولم أأوذي غيري بشيء كذلك وهذا ما يريحني الآن , وها أنا الآن ميت وليس علي أن أحزن بعد ذلك على كل هذا ، بل سيلحقون بي الكثير منهم الطيبين أو الأشقياء كما سبقونا آخرون ، والأهم في كل ما خطر بقلبي أعلاه .. أن الإنسان لا يعيش بمعزل عن الآخرين ، بل سيرى ذلك أكثر حينما يفارقهم أو يفارقون ، وإن حياتنا العاطفية والنفسية ، ترتبط ارتباطاً كاملاً بمواقفنا الإنسانية والأخلاقية ، وأن الله لن يكتفي بسؤالنا عن التزاماتنا الفقهية والتعبدية فحسب ، بل لسلوكياتنا وتضحياتنا اتجاه قضايانا الاجتماعية والقومية ، إن لجهاد ضمائرنا شأن أكبر ، وديننا كما يحثنا بالصلاة والصيام ، يأمرنا أيضا بالنزاهة والكرامة ، ويخبرنا أن المؤمن الذي يحبه الله أكثر إنسان لا يحيا لنفسه بقدر ما يحيا للآخرين ، فليس من الدين أن تفكر في نفسك دائماً وتنكر الآخرين . ولا زلت أبتعد عن الأرض ، رغم أنني في الحقيقة أزداد التصاقاً بها ، كلما خيل لي أني ابتعدت أكثر عن عالم ينسينا في كل لحظة ، أننا لم نقدر الحياة حق قدرها ، وأن كل ما في الحياة مركبات على نقص مفضوحة في شجاعتنا اتجاه الذين نحبهم . إلى كل هؤلاء الذين أتوا يعزون وفاتي : أنتم لم تشاهدوني قبل اليوم وأنا لم أشاهدكم بعد ، لكن أعدكم جميعاً أنني سأراكم ذات يوم ، وسنستعيد سوية أشرطة ما يجول على مسامعنا مما اقترفناه في حقوق الآخرين على هذه الأرض . للمزيد من مواضيعي
المصدر: منتديات مدائن البوح
آخر تعديل منتصر عبد الله يوم
10-15-2024 في 06:06 PM.
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 1 والزوار 1) | |
|
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
التخلص من الموتى | عطيه الدماطى | الكلِم الطيب (درر إسلامية) | 2 | 06-04-2024 11:17 PM |
الأنثى والإبداع | امـــل المالكـــي | قبس من نور | 3 | 02-17-2021 11:54 AM |
متى تكره الأنثى بقدر ماتحب.. | ايمان حمد | قبس من نور | 14 | 01-23-2021 10:52 PM |
الأنثى الاخيرة | فهمي السيد | سحرُ المدائن | 22 | 01-06-2021 11:08 PM |
أيتها الأنثى المعجونة بماء الصبار | فتحي عيسي | سحرُ المدائن | 22 | 12-04-2020 12:46 AM |