ما بين "ربّما" و التّفاصيل

نفتقر إلى أدب السؤال و الجواب سواء, إذ نلتقي _ وجهاً لوجه_ بهذا الافتقار في مجالسَ و أحاديثَ كثيرة, تجعلنا ننفر من تلك المجالس, اكتفاءً فانكفاءً؛ إيماناً بأن الابتعاد عمّا يؤذيك فرض عين عليك.
من بين تلك الأحاديث؛ أن تلتقي بأحدهم إثر طول انقطاع, و بعد السؤال عن الأحوال و الحياة, يكون السؤال المعتاد:
كيف حال الأولاد, كم ولداً لك؟ ما أعمارهم؟
ببرودٍ لا ينقصه انفجار خفي لبركان من الضيق, تجيب محاولاً الاختصار:
لا أولاد لدي.
لتجد نفسك أمام سؤال أكثر إزعاجاً من سابقه:
هل المشكلة فيك أم في زوجتك؟ هل تعالجتما؟ لا تحزن, لابد أن يفرحكما الله بولد!
لتعودَ بذات البرود بذات المواصفات مجيباً:
لم أتزوج!
هنا, عليك الاستعداد للسؤال الأكثر استفزازاً, و الذي يكون مصحوباً بضحكة استنكارية مقيتة:
أتمزح يا رجل, بالله عليك ما هذا المزاح, لحظة انتظر, هل أنت جاد فيما تقول؟ هل حقاً لم تتزوج, يا رجل؛ أقرانك أوشك أحدهم يغدو جدّاً و أنت لم تتزوج بعد! لمَ؟ ما السبب؟
هنا, يمر بك شريط العمر بأكمله, يمر _ كله_ خلال أقل من عشر جزءٍ من الثانية, يمر أمامك مستعرضاً أحداثه بعثرةً للصور و الأحداث و الأيام كزوبعة من الذكريات تجتاح عينيك بغير توقف..
تحاول التنفس بعمق يتيح لك أن تبتلع_ بما أوتيت من صبر_ مرارة السؤال و مرارة الجواب..
نصيب!

عن نفسي, متصالحٌ مع ذاتي و قسمتها, فالحياة بعين الرضا تزيح عن كاهل الإنسان عناء الانتماء للحزن الأسود, ذلك الحزن الذي يجعل الإنسان يتجرد من كيانه ليغدو مجرد ظلٍ لجراحٍ؛ ربما نسيت _ هي نفسها_ أنها كانت _ يوماً_ جزءاً من يومياته.

هي الحياة مرةً ريحاً و مرةً رياحا, و أنت ما بين ظالمٍ و مظللوم, فلا براءة لك, و إن الاعتراف البسيط بغير عقد؛ ليكفيك عناء الاعتذار لماضي الزمان, منك و عنك سواء.


من ذاكرة الشعور البعيد, ذات شبابٍ مضى..
" و أسمع أستغرب
أقول يجرب
خليه يجرب
يبعد يقرب
حياخد إيه
غير النصيب"*

على ذات المقعد, قُبالة ذات النافذة, و العمر شاهدٌ لا يكذب.

و يحدث أن يتقاعد كلاهما_ المقعد و النافذة_ من مهمة الانتماء لفسحة الحديث على هامش الحياة, بينما يصر هذا العمر على أن يبقى شاهداً يأبي أن يكذب, في أمس الحاجة إلى كذبٍ رحيمٍ يسدل الستارة, منهياً الصراع المتهالك ما بين مد الأمل و جزر الخيبة, إذعاناً لما تفرضه الوقائع, شرطاً لا بد منه للانتقال من رمادية الهوامش إلى فحواها المخبوءة خلف ظلال الأمس الممتدة على اتساع الإدراك المتكئ_ اضطرارياً_ على عزيمة عرجاء, اتخذت من الطبيعة البشرية ذريعة لها في استمرارية بقائها على الحد الفاصل بين الأضداد, خوفاً من المجهول, حيث و حين استوجبت الحال عبوراً حتمياً بغير توقّف من التفاتة في أمس و غد سواء..