الموضوع: منفى الحالمين
عرض مشاركة واحدة
قديم 10-24-2021, 08:36 AM   #51


الصورة الرمزية مريم
مريم غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 504
 تاريخ التسجيل :  Sep 2021
 أخر زيارة : 09-01-2023 (12:33 PM)
 المشاركات : 22,946 [ + ]
 التقييم :  121278
لوني المفضل : Cadetblue


افتراضي رد: منفى الحالمين



قبل كل شيء في الصباح تلتهمني الموسيقى والكلمات، وفي هذه الأوقات تحديداً تسحبني الكتابة ..
صباح الخير جداً يا محمد.. بمناسبة الحديث عن الكتب، سأحدّثكِ كيف حصلتُ على أوّل كتابٍ من مالي الخّاص.
كنتُ قد أخبرتُ صديقي ورفيق الساحة شاهد في ساحة حرب أني أسكن في الحي الفقير الذي لا تلسعه الشمس ولا يبلله المطر. من الخارج نحن بخير .. نحن بخير .. نحن بخير فقط أردد!
قال لي حينها:
"ثم يا "مريم" قد تدور عجلة الأيام على منوال متسارع أحياناً في تلك الأحياء الفقيرة، تلك التي قد لا تلسعها الشمس لكن المطر يعرف طريقه ليبلل كل شيء فيها كما سأذكر في ردٍ لاحق، وقد نفقد أحياناً في تلك الأحياء بسبب ذلك التسارع رتم القلق، وكلما تكرر ذلك التسارع قلّ الاهتمام أكثر بنوعية المشاعر التي تشعرنا بأنواع العيوب التي يخلفها ذلك القلق" .. انتظرتُ رده كما وعد لكنه تأخر قليلاً -وأنا حين تعدني الكلمات بأن تعود، لا أنسى-!
وها أنا أخبركَ مجدداً يا محمد بأنّ الشّمس لا تزور بيتي، وفي الحقيقة أنا لا أثقّ بها. لم يكن شراء الكتب بالأمر الهيّن بالنسبة لي، فأنا لم أُولد وفي فمي ملعقة من ذهب بل كانت ملعقة حديدية أكل الصدأ حوافها حتى أضحت تجرح بطانة فاهي، وأذكر أنني كنتُ مولعة بقراءة كل ما أتيح لي وما يمكن أن تقع عليه عيناي فتجدني منكبة على أعمدة الصحف، والمقالات، والكتب المدرسية والنشريات في المشافي وحتى اللوحات الإشهارية على الطرقات وكل ما من شأنه أن يُقرأ... بدأتُ العمل من الصف الأول الإعدادي، في العطلة المدرسية أخرج إلى عملي قبل أن أرى الشّمس، وهكذا كانت حياتي. عملتُ بائعة ملابس، بائعة أنتيكا وفخار، خيّاطة، معلمة لكل المراحل ولمحو الأمية، ولأوّل مرّة سأقولُ سرّاً لا يعرفه أي أحدٍ عني: عملتُ متسولة ليومين أو ثلاثة في الابتدائية دون علم عائلتي بذلك؛ لأنني سمعتُ أمي تقول بأنّها بحاجة إلى دواء ولا يمكنها شراء ذلك. -كلما عادت لي هذه الذاكرة شعرتُ بوخزة- وفي المرحلة الجامعية، كنتُ أعملُ بشكلٍ هستيري، في الصّباح أعمل ثمّ أذهب إلى الجامعة، طوال ثلاث سنوات اشتريت فقط ثوبين، كنتُ أخبئ المال لشراء الكتب، كثيراً ما حلمتُ بأنني صاحبة مكتبة. لم أستطع شراء غير القليل من الكتب.
"جبران خليل جبران" كان اسماً بوزن ثقيل يردده أستاذي في المتوسطة، كنت في سن الثانية عشر تقريباً كان يقول دومًا أنه قامة باسقة من قامات الأدب العربي فأردتُ أن أقرأ له بشدة وفي إحدى المرات بينما كنت عائدة إلى المنزل بعد الدوام المدرسي صادفتُ شيخًا يبيع الكتب على قارعة الطريق، ومن بعيد لمحتُ اسم جبران مطبوعًا على كتاب يحمل عنوان" الأجنحة المتكسرة" فرحتُ أمنّي نفسي بشرائه لكنني لم أكن أملك المال الكافي فاشتغلت بائعة متجولة للفخار لإحدى العجائز اللواتي كنَّ يمارسن هذه الحرفة، كان العمل لخمسة عشر يوماً متتالياً يكفي لتأمين مبلغ الكتاب إلا أنني وجدتُ صعوبة في إيجاد المشترين فكنتُ أطرق الأبواب، أُمارس التهريج وإلقاء الدعابات على خجل، أُحاول جاهدة عرض السلع باحتراف، حتى أترك أثراً ما في أنفس الزبائن لعلهم يرقّون لي فيشترون مني وما إن تغلق إحداهن الباب في وجهي حتى أمطرها بالشتائم في نفسي سراً ودمعاً في أغلب الأحيان، وقد أرمي المنزل بالحجارة ثم ألوذ بالفرار من شدةِ غيظي ووجعي، كنتُ لا أنسى تفقد الكتاب كلما سنحتْ لي الفرصة لأتأكد أنهُ ما زال سانحًا وما إن جمعتُ المبلغ حتى وجدتُه قد بِيع لسوء حظي، ويالها من حسرةٍ عظيمةٍ اجتاحتْ قلبي فأخذتُ أنظر هنا وهناك لعلني أجد كتاباً آخر باسم جبران ثم شرعتُ بالبكاء، فاستغرب البائع ذلك وأخذ يسألني عن خطبي وما إن حكيت له حتى وعدني بأن يحضر لي كتابا آخر باسمه. ومنحني رواية" زينب" مجاناً وكانت تلك أول رواية أقرؤها لأكتشف لاحقاً أنها أول رواية كتبت بالعربية على الإطلاق.
دعني أُخبركَ عن مغامرتي في أوّل كتابٍ اشتريتهُ بعدما ضاع كتاب جبران، "قواعد العشق الأربعون" صاحب المكتبة هذه المرة كان محتالاً، اليوم الكامل الذي عملتُ فيه وضعته على الكتاب، لا أكذب إن قلتُ لكَ كم كنتُ أشعر بالمتعة، وأستمتع بكذبه بل أريد المزيد وهو يحلف بحياة أولاده كذباً، على الرّغم من أنني أشتمُ بائع البطاطا إذا ارتفع السّعر قليلاً. أنا ثرثارة كثيراً أعتذر، ولكنني في الكتابة فقط.
أضعُ الكتاب في أي مكان، حتّى فوق الغسّالة. لا أقدّس شيئاً، أيعقل فتاة مثلي تخبئ كلماتها في أي مكان -لا يخطر على البال- أن تقدّس أي شيء؟ الكلمات موسيقى، يمكن حملها حتّى في جيوب ملابسك، أو في قلبك. أحبّ الفوضى في مثل هذه الامور تحديداً رغم أني جداً أهتم بتفاصيل الأشياء مهما كانت صغيرة-ماذا هذا التناقض- أليست هذه الكلمة كانت سبباً في حرمان "بليغ حمدي" من حبيبته وردة والحكم عليه بالسّجن والهروب إلى بيتٍ لا بيت له؟ عندي الكثير من الرّفوف كلّها للزجاج، أو كما تمنت أمي المسكينة. والدي صمم ذلك الشيء الغريب مع أساس البيت، لا يمكن إزالته أبداً؛ ولأننا لا نضع لا زجاج ولا حتّى مزهرية واحدة، أستغله في الكتب رغم محبتي الكبيرة جداً للسماء للشجر وللورد !


بالمناسبة:
أنا أمتلك أربعة جدران،
ورغيف خبزٍ وبنادول
ويداً أكتب فيها
وأتنفس
ولكنني أعيش في الحالة الخضرية الدائمة
حيثُ الموت
ولا أحد يقطع عني الماء
لأعيش حيث ينبغي أن أكون
حيثُ البيت
بيتي ..


 
 توقيع : مريم







"قويةٌ كحرب، ناعمةٌ كسلام"




التعديل الأخير تم بواسطة مريم ; 10-24-2021 الساعة 08:47 AM

رد مع اقتباس
 
1 1 1 2 2 2 3 3 3 5 5 5 6 6 6 7 7 7 8 8 8 10 10 10 11 11 11 12 12 12 13 13 13 15 15 15 16 16 16 17 17 17 28 28 28 30 30 30 31 31 31 32 32 32 37 37 37 38 38 38 39 39 39 41 41 41 44 44 44 45 45 45 46 46 46 47 47 47