عرض مشاركة واحدة
قديم 05-14-2023, 11:33 AM   #14


الصورة الرمزية أحمد عدوان
أحمد عدوان متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 99
 تاريخ التسجيل :  Sep 2020
 أخر زيارة : 05-18-2024 (05:39 PM)
 المشاركات : 16,148 [ + ]
 التقييم :  37776
 SMS ~

لوني المفضل : Cadetblue


افتراضي رد: "صداع بالقلب" .. رواية قصيرة





أحس سالم بالتعب من الكتابة ، أغلق دفتره وفتح هاتفه ، وحسابه على تويتر ، يطالع التغريدات ، لا رغبة لديه بنشر أي شيء ، حتى مرت أمامه تغريدة لواسيني تقول :
"يجب أن تعرفوا أني منهك ومنتهك وحزين ومتوحد مثل الكآبة" ، شعر أنها تعبّر عن حالته فقام بمشاركتها على حسابه ، كانت الساعة تجاوزت العاشرة والثلث ، أغلق تويتر وفتح الفيسبوك ، ألقى نظرة على قائمة المتواجدين ، لمح الطبيبة متصلة ، فخطر له أن يسألها عن والدته ، أخبرته أنها أخذت حقنة الأنسولين وأنها نائمة حاليا . وقالت أنها على وشك المغادرة الآن ، وستعاود المستشفى غدا صباحا، شكرها سالم وأغلق نافذة المحادثة ، وخطر له أن يُلقي نظرة على صفحتها ومنشوراتها .
تسمّر من الدهشة ، تلك الطبيبة التي قضت سنوات دراستها مع الأمراض والأدوية ، وتقضي الآن معظم أوقاتها مع المرضى ، والحالات المستعجلة ، تنشر مقتطفات مما كتب واسيني ، وروضة الحاج ، وشمس التبريزي والقصيبي ونزار ودنقل . جميل والله . فكّر قليلا ، ونشر على حائطه العبارة التالية :
في الحقيقة أنا لا أمارس رياضة المشي ، ولا أهتم مطلقا بما تقوله المجلات الطبية ، أنا أمشي كل صباح ومساء لسبب آخر تماما ، إنني أحاول قتل الفراغ الذي خلّفته لي .
أطفأ مصباح غرفته واستسلم للنعاس .
صباحا ، حينما استيقظ سالم ، وجد أن الطبيبة قد تركت له تعليقا على عبارته تلك :
" من هذه اللحظة يا صديقي ، عليك أن تهتمّ بما تقوله المجلات الطبية ، كثيرًا "
جلس يخمن ما تقصده تلك الطبيبة بقولها ذاك ، ربما كانت تعني أن والدته مريضة ، وعليه أن يقرأ المجلات الطبية ليتمكن من مساعدتها . أحضر فنجان قهوته ، كان آخر يوم من تلك الإجازة ، وكان الجو بمدينته قد بدأ ينقلب فجأة ، من حرارة متقدة إلى برد ورياح . استخرج معطفا أسود اللون ووضعه بجانبه ، وبقي عالقا بذلك التعليق ، يفكر في ردّ مناسب عليه ،
كتب لها : "يبدو أنني سأطلّق المجلات الأدبية ، وأتجه نحو الطبية " وأرفق عبارته تلك بوجه يبتسم .
بعد الظهر اتجه سالم لزيارة والدته كالعادة ، أخذ معه بعض الحاجيات اطمأن عليها وكان وضعها يستقر ، وبدأت تستعيد عافيتها ، ويبدو أنها تريد أن تغادر سريعا ، كان كل همها سالم ، أين يأكل ؟ وماذا يأكل ّ من يلبي طلباته ؟ ملابسه ؟ قال لها : "اطمئني ، أنا بخير ولا ينقصني إلا أنت " ، ثم أخبرها أنه سيهاتف أخته خلود ويخبرها ، وربما تأتي معه في الغد . وبالفعل بمجرد مغادرته باب المستشفى أخبرها ، وطمأنها عشر مرات أنها بخير ، وبقيت تستفسر ، كان يعلم أنه سيسمع منها هذا الحديث : "علاش يا سالم علاش ما خبرتني من أول يوم .. وش تستني ؟ حتى تموت ؟" حاول سالم إيقافها بكل السبل وما استطاع ، تركها أخرجت كل ما بقلبها ، ثم اتفقا أن يتغدى عندها في الغد ويصطحبها لزيارة والدتها .
مساءً اتصل سالم بزياد ليطمئن على حاله ، خصوصا أن حمل زهراء دخل شهره التاسع منذ أسبوعين ، كان كل شيء يسير عاديا ، كانا ينتظران بنتا ، وقد وقع اختيارهما على اسم بلقيس ، لا يدري أكانت ملكة سبأ ، أم زوجة نزار ، لا يهم ، المهم أن تأتي ، هكذا قال زياد .
لازال يستعيد كل ليلة ذكرياته رفقة لؤلؤة ، كان مفعما بالتفاصيل التي لا تُنسى ، كانت أغنية حليم " نبتدي منين الحكاية" تصدح ، وكان سالم غارقا خارج الوقت ، قبل أربعة أعوام بالضبط ، حينما أخبره زياد بأحد أيام نوفمبر أنه كتب اسميهما بقوائم الرحلات التي تنظمها لجنة الخدمات خلال إجازة الشتاء ، كانت رحلات بنصف التكلفة إلى مصر وتركيا ، ودبي ، لمدة عشرة أيام ..
ـ وأين سنذهب يا فالح ؟ قال سالم .
ــ مصر طبعا .
ـ ولماذا مصر ، تركيا تبدو وجهة أفضل .
نظر زياد إلى عيني سالم ، تلك النظرة التي يحفظها سالم ، فانفجر الأخير ضاحكا ، وقال له :
ـ لو أنها كانت لغير مصر ، ما كنت لأوافق .
ـ أحفظك يا صديقي ، فلا داعي للؤم معي .
كان يتذكر تلك الأيام جيدا ، كانت سعادته غامرة ، يرسم الخطط ، أربعة أيام بالقاهرة ، سوف لن يفارق لولا ، سينفصل عن الفوج السياحي ، يدّعي المرض أو يخرج باكرا من الفندق ، سيجد طريقة ليذهب إليها ، سوف لن يخبرها أبدا أنه بالقاهرة ، بدأ بتجهيز كل ما يحتاجه .. حصل من لولا على اسم الشركة التي تشتغل بها دون أن تشعر ، بحث عنها ، حصل على عنوانها بوسط القاهرة بالمقطم ، شارع 9 هكذا يٌسمى ، حصل على صورة لسيارتها ، وبالتأكيد كان لديه رقم هاتفها ويعرف تماما مواعيد دوامها .
في الغد ، سارت الأمور وفق ما يريد سالم ، تناول الغداء مع معتز وخلود ، ثم ترافق الثلاثة إلى مستشفى المدينة سيرًا على الأقدام ، منزل معتز كان محاذيا للمستشفى ، بالممر المؤدي إلى المستشفى لمح سالم الطبيبة تدخل إلى إحدى غرف المرضى ، أوصل شقيقته ومعتز إلى غرفة أمه وبقي خارجا ينتظرها ، وما لبثت أن خرجت وجدته بوجهها ، سلّم عليها وتبعها إلى مكتبها ، حيث سألها عن والدته ، وقالت له :
ـ متقلقش روحك ، راها مليحة ، ممكن يومين ثلاثة وتخرج .
خبر كهذا يسعده بكل تأكيد ، شكر الطبيبة كثيرًا ، وقبل خروجه قال لها :
ـ مكنتش نظن طبيبة كيما نتي تهتم بالشعر والأدب .
وأجابته أنها منذ صغرها تهتم وتعشق الروايات والأشعار ، فأخبرها سالم أنه كذلك ، بل وأحيانا يكتب .
في الأخير اتفقا أن يرسل لها بعضا مما يكتب .
توجهه سالم نحو والدته ، واطمأن عليها ، كانت خلود تمسك بيدها ، وتتحدث بشغف كبير ، أما معتز ، فمال إلى سالم وهمس له يسأل عن تلك الجميلة التي كان معها ، ابتسم سالم ، ورد عليه : خطيبتي .
اللئيم معتز ضحك بصوت عال وقال :
ـ علاش يا الحاجة ما خبرتونا أن سالم خطب طبيبة ؟
وهنا نظر الجميع إلى بعضهم باندهاش .. سالم والحجة زينب وخلود . ولكن معتز كان مستغرقا بنوبة ضحك ، سالم كان وجهه محمرا لا يدري ما يقول سوى أن توجه لخلود بقوله : راجلك راه يخرف . كان معتزا من ذلك النوع الذي يحب المزح والسخرية ويعشق المقالب ، ويمكن أن يورطك بأي شي ، رغم طيبته المفرطة ، لذلك لم يغضب منه سالم ، ومرّت المزحة بسلام .

**
" ذلك العمود المقابل لبيتي ، لا يزال يتذكر أنه كان شجرة ، لا يزال يحن إلى الماء وأعشاش الطيور ، مثلي تماما ، لازال بذاكرتي ذلك العاشق الذي كنته يوما ، تلك الوردة بالمزهرية ، لا تزال تحن إلى الحديقة تتذكر يوم أن كانت تتباهى على جاراتها ، تستطيل بنظرها على بقية الزهر ، وتخبرهم أنها الأجمل ، ذلك الجمال الذي أودى بها إلى قاع مزهرية ببيت أحدهم ، تلك الوردة مثلي تماما ، لازال ذلك الحنين يلازمني إليك يا لولا ، ذلك المساء ، وذلك الوجد ، وكل التفاصيل الصغيرة التي لا يلتفت لها سوى قلب كقلبي وقلبك لازالت تجثو على ركبتيها عند باب الأرق ، تنتحب من فرط الحنين إلى تلك الأوقات التي مضت ، وما انقضت . ثمة شعور يمر بك تعجز عن وصفه ، الشعور الذي يتداخل فيه الحزن والشجن والحنين والارتباك والرغبة في احتضان أحدهم رغم المسافة ومسح دموعه ، ثم الخوف من أن كل ذلك قد يُفاقم مواجعك وأحزانه ، شيء أشبه بلُغم جاء أحدهم وسحب صمام أمانه ثم دحرجه صوب قلبك ، أتدرين يا حبيبتي البعيدة ،، كل ذلك يسكنني كتعاويذ معلقة بصدري كلما مشيت أو تحركت أحدثت بداخلي جلبة لا يسمعها سواي ، أنا فقط من أعيش تلك الحياة الخفيّة التي أواريها عن أعين الحاضرين خشية أن يلمحوك في عيوني ، بل أن يلمحوا خيبتي فيك ولو من خلف ألف ستار وجدار .
تذكرين يا لولا ، يوم أن أرسلتِ لي معزوفة ياني ، ودعوتني إلى رقصة سماوية أخرجها الخيال كما يشتهي القلب ، يوم أن سألتني لماذا أحبّك ؟ وقلت "لأنك قدري" ، ويومها قلتِ لي : "أنا لستُ قدَرَك ، أنا حُلمُك لا أكثر" .. حورانا يومها كان ولا زال راسخا بتفاصيله، قلت وقتها :
ــ اسمع يا سالم، نحن نصنع أقدارنا بأيدينا ، نحن فقط نرمي ما نصنعه ونقترفه ونخفق فيه على ظهر القدر ، الأقدار تكون كالموت الذي اختطف أبي وأمي دون أن يكون لأي أحد يد لتغيير ذلك ، أما ما نجنيه بأيدينا وقلوبنا ، فنحن من نقرر مصيره . ونحن من نتحمل أجره أو وزره .
كان وقتها حديثكِ واضحا، أنا فقط من كان لا يلق بالا لما تقصدين، كل يوم يمر أكتشف أنني لم أفهمك كما ينبغي ، بل إنني فهمتك دائما كما أشتهي"
أقفل سالم دفتره ، وألقاه على سطح مكتبه ، أمسك هاتفه ليراسل شهرزاد ، كان يود أن يرسل لها بعض ما كتبه ، كما وعدها ، ولكنه احتار ماذا يرسل وماذا يترك ، هل يبعث لها بعضا مما كتب على دفتره الأسود ؟ .. لا ، هذا تاريخ مروي لا أحد يملك حق قراءته قبل لولا .
قرر أن يكتب لها ارتجالا، على نافذة المحادثة، فبدأ يكتب :
"ها قد عدنا كما بدأنا .. غريبين تنكرنا الأماكن والذاكرة ، ويعرفنا الجحود والهجران ، يحفظنا الغياب عن ظهر قلب ، تمر بنا النهايات التي لا تكترث للحب تصطحبنا إلى ذلك الطريق المسدود الذي روته قارئة الفنجان تجعلنا نتخذه مزارا نكتب عليه تفاصيل الحكاية ،الموج الأزرق ، القصر المرصود والشعر الغجري ، وسماء ممطرة تعيد ترتيب الحكاية : أنت بعيدة بمقدار حزنين ، وأنا بعيد بمقدار انتظارين ، وبيننا تتناسل تلك الغربة.
ها قد عدنا غريبين تكتظ بنا الطرقات الفارغة إلا من عطرك ونداءاتي ، مساء الورد التي كنا نتبادلها كل ليلة ،ذهبت مع الريح ، رسائلنا جرفها الجو الماطر والإعصار ، ضحكاتنا اختفت ، أحاديثنا اختطفها الصمت ، لا شيء من ذلك الماضي الجميل ظل على حاله ، فقط صدف عابرة تبث في قلبي وقلبك ومضة عشق ليتها كانت عابرة أيضا ... ها قد عدنا غريبين كما كنا ، نسلك دربين مختلفين ونردد في دواخلنا :
مقدورك أن تمضي أبدا
في بحر الحب بغير قلوع"
ضغط على زر الإرسال ، وبذات اللحظة ، شاهدت شهرزاد ما كتبه سالم . سألته : أنت كتبت هذا ؟
فأجابها سالم بأنه من فعل ، فكان أن قالت له ، الآن سأناديك الأستاذ سالم ، من يكتب بهذا القدر من الإحساس والبلاغة يستحق لقب أستاذ . ابتسم سالم ، ورد عليها ، أنه يفضّل أن تناديه سالم دون ألقاب ، طالبته بالمزيد ، فأخبرها أنه كتب هذا للتوّ ، فطلبت منه أن يكتب ، وكان سالم ليلتها يحس برغبة شديدة بالانهمار ، كتب لها :
"لقاء المرة الأولى، ذلك الذي تتعثر فيه الكلمات، وتصبح فيه للعيون شفاه تحكي، لقاء الدهشة الأولى، لقاء البسمة الأولى، والنبضة الأولى، غالبا ما يكون فخا محكما يودي براحة البال "
أجابته شهرزاد : ليس دائما يا سالم ، هناك لقاءات تفتح أبواب السعادة أنت تُغالي بكلامك .
ــ وما الأدب إلا مبالغة ومغالاة و تكثيف ، لا تنسي أنني قلت غالبا وليس دائما .
وكتب لها أيضا :
"ابتسامتك كفيلة بأن تجعل شجرة تبتسم" فأرسلت له ضحكة طويلة ، أردف سالم : هكذا ضحكة تجعل الغابة كلها مبتسمة . قالت له ما أجمل كلماتك .. أنت ساحر إذن . ثم عرض عليها أن تسمع معه أغنية، وافقت شهرزاد وكان سالم يستمع لحظتها إلى وردة ــ العيون السود ــ فأرسلها لها، ليس غريبا أن تقول له أنها تعشقها ، سالم كان يحس أنّ كل ما يحدث قد حدث معه سابقا ، بكلماته ونقاطه وفواصله .


 
 توقيع : أحمد عدوان

حسابي على تويتر



رد مع اقتباس
 
1 1 1 2 2 2 3 3 3 5 5 5 6 6 6 7 7 7 8 8 8 10 10 10 11 11 11 12 12 12 13 13 13 15 15 15 16 16 16 17 17 17 28 28 28 30 30 30 31 31 31 32 32 32 37 37 37 38 38 38 39 39 39 41 41 41 44 44 44 45 45 45 46 46 46 47 47 47