عرض مشاركة واحدة
قديم 04-26-2023, 10:35 AM   #5


الصورة الرمزية أحمد عدوان
أحمد عدوان متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 99
 تاريخ التسجيل :  Sep 2020
 أخر زيارة : 05-18-2024 (05:39 PM)
 المشاركات : 16,148 [ + ]
 التقييم :  37776
 SMS ~

لوني المفضل : Cadetblue


افتراضي رد: "صداع بالقلب" .. رواية قصيرة






كانت أياما للحزن ، مرّت ثقيلة بطيئة وموحشة . الموت مصيبة عظيمة ، فقدٌ كامل، ينهش القلب ويحرقه ، بدأ زياد وزهراؤه يعودان إلى حياتهما ببطء ،أجل ، لقد تغيّرا ، أخذ منهما الموت طفلهما الأول ،أخذ منهما سعادتهما ، ودفئهما ، والكثير من روحهما ، لكنه الموت ، إن مر في جوارك يوما سيأخذ منك نصيبا معتبرًا ، سيترك بصمته ويمضي إلى أن يعود ذات يوم أخر ليأخذك كلّك . هكذا كان يفكر
سالم وهو متكئ بجانب أمه ، يشرب فنجان قهوة ، ويحدثها من حين لآخر عن زوجة زياد وما فعل بها موت وحيدها، وتجيبه الحجة زينب : أن في قضاء الله اللطف بأن حفظ لها جنينها كتعويض عن الذي فقدته .
أسبوعان مرّا على ذلك اليوم المشؤوم ، تذكّر سالم أنه منذ وقت طويل لم يسأل عن أخته خلود ، سأل عنها والدته فطمأنته أنها تحدثت معها صباحا ، وهي على أحسن ما تكون ، سأل عن صغيرتها نبراس ، تلك الجميلة التي لا يمل منها ، وأخبرته أيضا بأنها بخير وعافية . فجأة لمعت بذهنه فكرة وأراد تدوينها ، دخل غرفته وأغلق بابها ، فهو دائما يحب أن يستأثر بالحميمية رفقة دفتره الأسود وبدأ يكتب :
" لم أقرأ عبارة أجمل لمي زيادة من قولها : (هل من سبيل إلى حل عقدة تستوجب القطع ، وكلما لمستها علمت أن خيوطها من نياط قلبك) ، يا رب السموات ، ذاك فعلا ما أنا عالق به ، علاقتي بلولا تستوجب القطع ، ولكن قطعها ليس بالأمر الهين ، صحيح أنّها علاقة منتهية ، ولكنها عالقة بالقلب تحيط به كعقدة يصعب فكها ، وقطعها قد يقطع معها أوردتي وشراييني . ما أبدع وصفك يا مي ، لا أحد يبدع الوصف بتلك الطريقة إلا إن كان مرّ بتلك الحالة فعلا . أخبريني الآن يا لولا .. إن كان حلّ العقدة مستحيلا ، فما السبيل للخلاص منها غير البتر القاتل ؟ أعلم أنك بعيدة لا تعلمين ما أعانيه وأكابده ، لكنني لم أتوقف أبدا عن الكتابة لك ، أو عنك ، أحاول أن أتخفف منك على هذا الدفتر الأسود ، كلما كتبت أشعر أنني أرتاح قليلا ، أحس أن جزء من حزني عليك ينسكب عبر الحبر والكلمات والأوراق"
كان سالم كل ليلة يستعيد مراحل علاقته بلؤلؤة ، أحاديثه معها ، ضحكاتهما سويا ، أغاني فيروز بالصباح ، وحليم بالمساء ، وأم كلثوم بالسهرة ، كان مكتظا بالتفاصيل عن آخره ، وبكل ما حدث بينهما ، كانا يلتقيان غالبا بعد الظهر ، حينما يكون الاثنان قد عادا من دوامهما إن كان يوم عمل ، يتبادلان تفاصيل يومهما ، وبعض أسرارهما ، أخبرها بتفاصيل حياته كلها ، كيف نشأ فقيرا ، كيف أنه وحيد والديه إلا من أخت أصغر منه بأربعة أعوام ، حكى لها كيف فقد أباه في حادث سير مروع وهو في عمر العشرين ، حكى لها عن والدته طويلا ، عن طيبتها ، وعن رغبتها العارمة بالحج ، لم يسعفه ذلك الفراق أن يخبرها أنه حقق لها أمنيتها تلك منذ عامين وأصبحت الحجة زينب ،
أخبرها بكل ما يخصه ، ما يحبه من أكل ، ومن لباس ، ألوانه وعطوره ، مواقيت دخوله وخروجه ونومه ، أحلامه وآماله وأحزانه ، كتبه المفضلة ، موسيقاه وأفلامه ، أرسل لها صور غرفته ، لم يدع تفصيلة واحدة تمر دون أن يشاركها مع لولا .
كانت لولا بالمقابل تخبره عن حياتها ، ولعل أهم خبر آلمه كثيرا ، وشعر بعده بالكثير من التغيير في علاقتهما حينما أخبرته أنها فقدت والديها وهي بعمر السادسة ، لم يكن بحادث ما ، ولكنها فقدت والدها أولا ، وبعد بضعة أشهر فقدت والدتها ، . يا رحيم السماوات ، أي وجع ذاك لطفلة بعمر السادسة تفقد سندها كاملا خلال أشهر قليلة وتبقى وحيدة إلا من عم يضمها إلى أطفاله ، منذ تلك اللحظة صار سالم يخشى كثيرا على لولا ، صارت كلماته معها محسوبة ، همساته وأغانيه كلها بحساب ، صار يخشى عليها أكثر من نفسه ، تلك الطفلة التي عانت اليتم والوحدة مبكرا ، لا تستحق ألما آخر حتى وإن كان خدشا بسيطا ، أو كلمة غير محسوبة العواقب . أخبرته أيضا عن أخ لها هاجر إلى أوربا وتزوج هناك ، أخبرته عن عملها بإحدى الشركات الأجنبية بقلب القاهرة ، عن شقتها التي ورثتها عن أبويها ، عن عاداتها وهواياتها ورغباتها وآمالها ، وقبل ذلك عن آلامها .
صباحا استيقظ سالم ، وتوجه إلى بيت صديقه زياد ، كانت أجواء الحزن لا تزال بالمكان ، ولكنه آثر أن يزورهما لقضاء يوم أو بعض يوم معهما تخفيفا ومواساة ، ربما من حسن الحظ أن كل هذا حدث ببدايات الصيف ، حيث تقفل المدارس أبوابها ، ويتحرر سالم وزياد من ارتباطات العمل والدوام المنتظم لمدة طويلة ، وصل سالم ، وبادر زهراء بأنه يشتاق إلى غداء دسم من يديها كما جرت العادة ، وحينما انفرد بصديقه ، حاول أن يطمئن على زهراء وحملها ، وأخبره زياد أنهما بالأمس اطمئنا على كل شيء ، والحمد لله أن الأمور تسير نحو الأفضل ، بقي فقط أن زهراء تعتقد في قرارة نفسها أن ما حدث لولدهما ما كان ليحدث لولا الخطأ الفادح لزياد . " لقد حاولت يا صديقي أن أغيّر تلك القناعة بداخلها ولكنها تقفل ذهنها تماما ، تحمّلني مسؤولية موت وليد ، أيعقل هذا؟ " هكذا تحدث زياد بحرقة وخيبة أمل ، "هذه زهراء التي أحببتها وأحبّتني لسنوات ، يُفترض أن تجد لي ألف عذر، وإن لم تجد الأعذار، كان لها أن تغفر وتصفح .." لحظتها أقفل سالم سمعه وراح يفكر بقصته مع لولا .. يُفترض بالمحب أن يغفر ويصفح " وهذا ما أفعله تماما ، لقد غفرت لها وسامحت ، صدقت يا زياد ، لو كان حبّا لأظهره الغفران ، لا يمكن للمحب أن يكون قاضيا ، المحب من يتجاوز كل ذلك ، يتغاضى عن كل زلّة ، المحب يا صديقي يطيح بالمنطق ويسير خلف قلبه " ، لم ينتبه سالم إلا وزهراء تقدم له فنجان قهوة من الحجم الكبير ، هي تعرف أنه لا يحب الفناجين الصغيرة ، لذلك اشترت مجموعة منها ، وحتى زياد ، تطبّع بذلك الطبع ، وصار يمسك فنجانا كبيرا ، ويحمله معه أينما قام وجلس .
اسمع يا زياد ، مازال الجرح يانعا ، لا تفكر أن الأنثى يمكنها أن تتجاوز مصيبة كالموت في عشرين يوما ، هو وحيدها الذي أنفقت معه أربعة أعوام من عمرها لا ثلاثة مثلك ، تحتاج إلى شهور عديدة حتى تعتاد على الأمر ،، وتتخلص من عاطفتها وتنظر لما حدث بروية وتمهّل ، اسمع ، حتى تضع حملها عليك أن تتحمّلها ، بعد ذلك سيكون هناك من يشغلها ويُنسيها .
كانت حالة زياد وزوجته تؤرّقه كثيرا ، خصوصا أنهما تزوجا عن قصة حب كان سالم شاهدا عليها ، وأحد شاهدي عقد زواجهما ، واستمر به التفكير حتى وهو يدخل المفتاح الخطأ في قفل باب منزله قبل أن ينتبه ويفتح بالمفتاح الصحيح ، وكم كانت فرحته عارمة حينما استقبلته نبراس فاتحة ذراعيها عند الباب .. ياااه ، مرّ شهران تماما عن آخر مرة احتضنها بتلك الحرارة وذلك الحب الشديد ، " لقد كبرت يا نونو" هكذا كان يسمّيها ، " وين ماما ، مع من جئت" ، ويحملها بين ذراعية ويدخل إلى غرفة والدته
سلّم بحرارة على شقيقته خلود ، دون أن يُفلت نبراس من يده ، كان يتعامل معهما بحميمية مطلقة ، ويسأل خلود عن حياتها ، ومدى راحتها مع زوجها ، وكانت تطمئنه كثيرا بأنها على ما يرام ولا ينقصها شي ، سالم يعلم أنه لن ينقصها أي شيء مع معتز ، زوجها ميسور الحال ، لكن دائما يراوده هاجس أن أخته ربما تكون غير سعيدة مع زوجها خصوصا أن زواجهما كان تقليديا ، هما لا يعرفان بعضهما قبل العرس سوى بثلاثة أشهر ، ذلك العرس الذي جرى قبل ثمانية أعوام ، صحيح أن سالم كان يعرفه قبلا ، وإلا ما كان وافق أن تتزوج أخته هكذا ، في النهاية هي وافقت عليه ، لأنه ما كان ليتصور أن يجبرها على شيء هي لا تريده .
قضى سالم ليلته يتسامر رفقة شقيقته ، كان يستطلع تفاصيلها ، يحاول ككل فرصة تتاح له أن يطمئن عليها ، وعلى قلبها بالذات ، إلى أن لمس خوفها ولهفتها ، وتقديرها لمعتز ، فشعر بالراحة والاطمئنان ،
هو لازال يتذكر معاناتها لأكثر من ثلاثة أعوام ، قلقها وخوفها الشديد بعد تأخر الحمل ، وتأكيد الأطباء لها أن نسبة الإنجاب لديها ضئيلة ، بكاءها الطويل لأشهر بعد فرحة قصيرة لم تدم أكثر من ثلاثة أسابيع ، تلاها إجهاض أطاح بالآمال الكبيرة التي كان تملأ قلبها وبيتها ومعتز ، لازال سالم يتذكر جيدا تلك الأيام العصيبة ، لقد جاءت حينها لتقيم عند والدتها ، الحقيقة أن سالم هو من أصرّ أن تأتي في تلك الظروف ، كانت تجهش بالبكاء تحت اللحاف ، لا شيء أقسى على المرأة من أن تعتقد أنها لن تتذوق طعم الأمومة مطلقا ، تلك غريزة كامنة بداخل كل أنثى ، إلى أن ينبت داخل أحشائها جنين ، لحظتها فقط تشعر بالتغيّر الهائل داخل كيانها وعواطفها وروحها وأحاسيسها ، لا شيء يبقى على حاله ، حتى الأكل الذي كانت تحبه ، تنفر منه الآن ، شيء ما ينمو بداخلها ، ينشطر ذلك القلب الذي بداخلها رغما عنها ليصير شطر منه مخصص لوافد جديد ، لم تره ، لكنه أقرب إليها من حبل الوريد . كانت تبكي بحسرة وحرقه وكان سالم يعجز عن مواساتها ، دائما تضعه الأقدار في مواقف يعجز فيها عن تقديم يد العون لمن يحب ، الخبر الجيد في كل هذا ، أنها لجأت إلى الحل الأخير " التلقيح داخل الرحم"، ما أجمل العلم حينما يكون لخدمة الإنسان ، ومسح أحزانه ، كان حلا عبقريا ، يمكنه أن يجعل الكثير من الأسر والبيوت تستقيم ، منذ أربعة أعوام ونصف ، توجهت خلود إلى تلك العيادة الخاصة الواقعة بالجزائر العاصمة ، على بعد مائتين وخمسين كيلومترا من بيتها ، لتبدأ أول إجراءات الولوج لذلك العالم المجهول الذي لا تعرف عنه شيئا ، ولكن لا يهم ، كانت تريد تحقيق حلمها بالأمومة ، حتى وإن كان الثمن مرتفعا ، تجربة أولى فاشلة ، بعد شهرين تجربة ثانية جاءت بثمارها ، وتحقق الحلم ، متابعة حثيثة ، واحتراس شديد ومرت التسعة أشهر ، لتأتي نبراس كأفضل ما يكون ، فتبارك الله أحسن الخالقين .
كانت خلود توشك أن تطير فرحا ، لا الأرض تسعها ، ولا السماء ، وكانت قد جهّزت لنبراس كل شيء ، بداية بالاسم ، واللباس ، والغرفة والسرير والألعاب ، وذاك حال الأحلام حينما تتحقّق ، تكاد أن تطيح ببقية العقل ، فقد كانت خلود تفكر بتجهيز ما تحتاجه نبراس للمدرسة ، منذ شهرها الأول .
منذ تلك الهبة الربانية وخلود ومعتز يعيشان أجمل أيامهما على ما يبدو ، نبراس الآن تقارب عامها الرابع ، تتحدث بطلاقة ، البنت الجميلة المدللة لدى أبويها ، وأخال أنهما يفكران الآن بتكرار التجربة ، لا أدري إن كان الأمر سينجح مجددا ، ولكن سيكون جميلا جدا لو أنهما يمنحان لنبراس أخا أو أختا ، كان هذا ما خطر ببال سالم ، وراح يحدث أخته عن الأمر ، فوجد أنها اتفقت فعلا مع معتز على الأمر ، وأنهما استفسرا عنه من ذات العيادة ، وأكدت لهما الطبيبة المختصة أن ذلك ممكن جدا ، ولا داعي لأي قلق .

**
"لماذا نُفكر دائمًا في نهايات الأشياء رغم أننا نعيش بدايتها. هل لأننا شُعوب تعشق أحزانها ؟ أم لأننا من كثرة ما اعتدنا من الخوف أصبحنا نخاف على كل شيء، ومن أي شيء .. حتى أوقات سعادتنا نخشى عليها من النهاية " ذاك ما قاله جويدة ، أما سالم فكان يقول أننا لا نخشى إلا فراق ما نحب ، ومن نحب ، والفراق نهاية ، نحن نخشى النهايات ، الموت نهاية ، نهاية لأحلام أطلقنا عنانها ، والرحيل نهاية لوعود أطلقنا وفاءها ، هل ينتهي الحب يا لولا ؟ بالنسبة لي ، هو لا ينتهي أبدا ، إن كان حقيقيّا ، هل ينتهي حب الأم لولدها ؟ هل ستتوقف زهراء عن حب وليد وتذكّره مثلا ؟ أكيد أن حزنها سيتوقف ، ولكن يبقى الحنين وتبقى الذاكرة حيّة يانعة ، هكذا الحب ما بيني وبينك يا لولا ، سيبقى راسخا لأنني على يقين أنه حب غير زائف "
وضع سالم دفتره واستغرق يتذكّر حكايته مع لولا ، يوم أن أرسلت له صورتها أول مرة ، كانت كما تصورها تماما ، جميلة وحزينة ، كان الحزن يستأثر بالعيون ، هادئة كليلة صيف ، يتذكر سالم جيدا تلك اللحظة ، هو لم يطلب منها أبدا أن ترسل صورتها ، مع أنه كان يتوق لرؤيتها ، كان يخشى الرفض ، سيكون وقع الرفض سيئا جدا ، وربما سينشأ حاجزا ما بينهما ، بالمقابل هو أرسل لها صورته قبل ذلك ، لا مشكلة لديه ، قد كان كثيرا ما ينشر صورته علنا .
يتذكر أيضا يوم أن اعترف لها بحبه ، كان بعد ثلاثة أشهر تماما من أول تعارف بينهما ، كان يوما مشهودا في ذاكرته ، الثاني عشر من شهر يوليو ، كان قد أرسل لها أغنية حليم " اسبقني يا قلبي " في منتصفها تماما ، كتب أحبك ، بأحرف متقطعة ، وأرسل كل حرف منفردا ، ولأنها كانت خفيفة دم ككل المصريين فقد كان ردُّها عجيبا : تحبني بالتدريج ؟ أم بالتقسيط المريح ؟ .. أريد رجلا يحبني دفعة واحدة يملؤني ويملأ الأرجاء والكون بالحب . ضحك سالم وأجابها بأنه يحبها على مهل ، حتى يرتوي ، تماما كأرض عطشى ، ينزل عليها المطر ودقا فترتوي على مهل ، امرأة كأنت يا لولا ، لا بد للقلب أن يمتلئ بها بكامل التمهل، كان سالم ينتظر أن تعترف له بحبها ، لكنها قالت له : تصبح على حب . انزعج سالم قليلا ، وقبل أن يغلق نافذة المحادثة ، كتبت له : "سالم .. أنت تسكنني"


 
 توقيع : أحمد عدوان

حسابي على تويتر



رد مع اقتباس
 
1 1 1 2 2 2 3 3 3 5 5 5 6 6 6 7 7 7 8 8 8 10 10 10 11 11 11 12 12 12 13 13 13 15 15 15 16 16 16 17 17 17 28 28 28 30 30 30 31 31 31 32 32 32 37 37 37 38 38 38 39 39 39 41 41 41 44 44 44 45 45 45 46 46 46 47 47 47