عرض مشاركة واحدة
قديم 04-24-2023, 10:10 AM   #3


الصورة الرمزية أحمد عدوان
أحمد عدوان متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 99
 تاريخ التسجيل :  Sep 2020
 أخر زيارة : 05-24-2024 (05:50 PM)
 المشاركات : 16,148 [ + ]
 التقييم :  37776
 SMS ~

لوني المفضل : Cadetblue


افتراضي رد: "صداع بالقلب" .. رواية قصيرة






أحس سالم أن دمعته ستنهمر فوضع دفتره والقلم ، وقرر أن يخرج إلى أطراف المدينة كما اعتاد من حين لآخر ويمر في طريقه على زياد . كان مزاجه هذه المرة سيئا جدا ، ولا أحد يحتمله بصمته وثورته مثل زياد ... مرت الساعات بأغلبها صمتا ،
ولكن سالم كان يجد بعض سلواه بذلك الصمت حينما يجلس بمكان مرتفع ويمد بصره بعيدا ، وكان زياد يعلم ذلك ، ويعلم تفاصيل حكايته مع لؤلؤة ، كان شاهد عيان على فجيعة صاحبه . كان زياد يقوم بتحميل كل الأغاني التي يحبها سالم ، أو التي كانت تصله من لولا على هاتفه ، وكان أحيانا يقوم بتشغيلها في جلساتهما سويا .
جلسا يسمعان " كلك على بعضك حلو " ، وسالم يتذكر .. أتدري يا زياد ، كانت هذه أول أغنية أرسلتها لها بأول محادثة بيننا ، كنت أقصد كل كلماتها ، وكنت أحس بضحكاتها ، بخجلها ، كما تقول الأغنية تماما ، أذكر جيدا أنها كانت أغنية من حفلة ليالي التلفزيون ، وأن ذلك حدث عند الرابعة مساء ، ترهقني التفاصيل يا صديقي ، ذاكرتي تقتلني .. هل سمعتَ قبلا بأحدهم مات من فرط الذاكرة ؟ أخشى أن أكون أول من يحصل له ذلك والله .
في تلك المحادثة الأولى ، كان سالم حريصا أن يعرف اسم تلك الفتاة التي أبهرته بكتاباتها ، بعيدا عن الأسماء المستعارة التي تتدثر بها الفتيات بمواقع التواصل ، وكان له ذلك ، اسمها لؤلؤة ، وعمرها ستة وعشرون عاما وتقيم بالقاهرة ، وفي كل محادثة كان ذلك التعارف يتعمق أكثر ، وانتقل التعارف إلى صداقة ، توطدت الصداقة وصار ثقة متبادلة .
عاد سالم بعد أن أدى صلاة العشاء بالمسجد القريب ، وكانت والدته بانتظاره ، بعد تناول وجبة العشاء سويا ، أخبرته أن حالته لا تعجبها ، وعات لتلح عليه بذات الموضوع الذي يتهرب منه على الدوام ، الزواج :
"تجاوزت الثلاثين يا سالم، ماذا تنتظر وقد صرت موظفا ؟ حتى صديقك زياد أصغر منك بعامين أصبح لديه الآن ولد ربي يبارك ويزيد ، وأنت تتهرب من الارتباط "
في أحايين كثيرة كان سالم يلتزم الصمت، وأحيانا يقول لها أنه لم يعثر على بنت الحلال بعد. وكانت والدته لا تقتنع بصمته ، ولا تقتنع بكلامه .
حينما انفرد سالم بنفسه داخل غرفته كانت الساعة لم تتجاوز العاشرة ، أمسك دفتره الأسود ، وقبل أن يفتحه كان صوت حليم يخترق سمعه من تلك القناة الطربيّة التي لا يغيرها أبدا، "حاول تفتكرني" ، تسمَّر فجأة ، واستغرق يسأل ، لماذا يطلب العندليب المحاولة ، بل ويترجى حبيبته أن تفعل ؟ من لا يتذكرك بمحض إرادته ، ما جدوى أن يفعل ذلك تحت الطلب ؟ مع ذلك أكمل سماع الأغنية بل وكان يردد مقاطعها وكلماتها .. لحليم سحر لا يُقاوم عند سالم، حتى وإن أبدى اعتراضه هنا أو هناك .
كان يتذكر حينما كانا يتبادلان أغنيات حليم كمادة دراسية مقررة ، كانت هي تعشق "موعود" وكان سالم يحب "قارئة الفنجان" ، بعد شهر من أول محادثة بينهما ، كان سالم قد بدأ ينفق ثلثي وقت فراغه مع لولا ، كان يشعر أنه عالق بها ، وغير قادر على التحرر منها ، بل وإنه كل يوم تزداد تعمُّقا بداخله . أيعقل أنه يحبها ؟ كان دائما يهرب من هذا السؤال ؟ بل وينفي أن يحب بهذه الطريقة الغريبة ؟ هو لم يرها، ولم يسمع صوتها، وكل ما بينهما محادثات كتابية . صحيح أنها كانت محادثات مطولة مدججة بالصدق والصراحة ولكنها ليست سبيلا لأن تكون باب حب بينهما .
تذكر سالم أنه أحضر منذ أيام قلما جميلا ، من ذلك النوع الذي يستهويه في الكتابة ، نهض من مكتبه الصغير ليبحث عنه ولكنه لم يجده ، وأخيرا وبعد جهد تذكر انه نسيه بجيب الجاكيت الأسود المرمي على الكنبة ، وحينما أخرج القلم سقطت معه حافظة أوراقه ، فتحها وأخرج من خلف إحداها صورة صغيرة ، لقد كانت صورة لولا ، لم يكن بحاجة إلى صورة حتى يتذكرها ، ملامحها محفورة بداخله ، كلما أغمض عينيه ليلا لينام ترتسم أمامه بكامل حسنها ، ولكنّه أحبَّ أن يتفقّد قدرته على التذكُّر أمام تلك الأنثى التي أنفق ستة أعوام من عمره في حبّها . أعاد الصورة لمكانها ، وأخذ قلمه ودفتره وجلس يكتب .
"افترقنا .. فلماذا لم يفارقني حبُك ، ولماذا يتمادى في حجزي بعيدا عن الحياة يا لولا ؟ أخبريني ، كيف لحبٍ كهذا لا تنال منه أربعة أعوام من الجفاء ؟ كيف له أن يستعيد عافيته ويسلبني عافيتي ؟ هل تراه باولو كويلو حينما قال "إن الحب يتجلى في غياب الحبيب أكثر من حضوره" كان يمر بمثل ما أعانيه وأجاهده ؟ ولماذا يغيب الحبيب أصلا ؟ هل قدر قصص الحب أن يغيب أحد طرفيها ويظل الطرف الآخر معلقا على حبل انتظار ؟ ولماذا لا يغيبان معا ، كل باتجاه ، ولا يجد الغياب انتظارا يعيث به حزنا ؟ إذن المشكلة فيك يا سالم ، أنت من بقيَ في كنف انتظار مقيت ونحيب لا ينقضي ، كان عليك ألا تلتفت ، أن تمضي فحسب نحو ذلك المكان الذي يبتلع الجميع ، ويسمونه الغياب "
أغلق دفتره وحمل هاتفه وفتح حسابه على تويتر وراح يقرأ التغريدات المتاحة بكثير من الملل ، إلى أن مرّت أمام عينيه تغريدة روضة الحاج ، عادت به الذاكرة إلى تلك القصيدة التي أرسلتها له لولا منذ أعوام " في موسم المد جزر" .. كان معجبا بها ولا زال ، "خطئي أنا أني نسيت معالم الطرق التي لا أنتهي فيها إليك" ، ربما لولا قد تذكرت كل الطرق سوى تلك التي تنتهي بها إلى سالم . يا الله كم يروقه هذا المقطع ، وكم يتعبه ، هو يحفظها عن ظهر قلب ، وكانت لولا كذلك ، تعشقها ، ولكن الفارق أن روضة أرادت فراقا متّفقا عليه إذ قالت لحبيبها دعنا نتفق ، أما لولا وسالم فقد كان فراقهما نزقا مثل بركان ثائر . فجأة رنّ هاتف سالم ، صديقه زياد ، وليس من عادته أن يتصل بهكذا وقت متأخر
ـ ألو سالم ، إلحقني أرجوك ، مشكلة كبيرة وليد بحالة خطيرة جدا .
ـ إهدأ يا زياد ، أين أنت ؟ سأتيك حالا .
أخرج سالم سيارته التي لا يستعملها إلا للضرورة ، واتجه إلى المستشفى الوحيد بالمدينة ، كان صديقه زياد وزوجته زهراء بأول الممر ، زهراء كانت تبكي ، بادرهما سالم بالاستفسار عما حدث ، وأخبره زياد أن ابنه وليد ذا الثلاثة أعوام قد تناول قارورة دواء خاص بضغط الدم كان قد أحضره زياد لوالدته الموجودة في بيت الأخ الأكبر ، ولكنه نسي أن يضعه بعيدا عن أيدي الأطفال .
ـ إن شاء الله خير يا جماعة .
كان سالم يطمئن صديقه وزوجته ، ولكنه كان مرعوبا ، كان يحدث نفسه بالأسوأ ، يا الله إنها قارورة كاملة من دواء خطير في جوف طفل لا يتجاوز الثلاثة أعوام .. ليس هذا فحسب ، فقد أخبره زياد منذ أسبوعين أن زوجته حامل في شهرها الثالث ، حاول سالم أن يبعد الأفكار السوداء عن ذهنه ، ولكنها عالقة به لا تغادره . مرت ساعة ، ساعتان ، وكأنهما ليلتان كاملتان ، كانت زهراء لا تكف عن البكاء المكتوم ، وكان زياد يلوم نفسه حينا ، وحينا يلوم زوجته ، وأخيرا فُتح باب في آخر الممر الطويل وخرج منه طبيبان وممرضة ليلعنا أن الطفل دخل بغيبوبة وأن وظائف الرئة لا تشتغل بشكل سليم ، قال سالم للطبيب : دعك من الكلام العلمي ، أريد أن أعرف إن كان سينجو ، أخبره الطبيب بعيدا عن زياد وزوجته أن الأربع والعشرين ساعة القادمة ستحدد إن كان سينجو أم سنفقده . لحظتها كان آذان الفجر يصدح ، وكان وقوف زياد وزوجته خارج قسم الإنعاش بلا جدوى ، فاقترح عليهما سالم أن يذهبا للبيت ويعودا بعد ساعات في مواقيت الزيارة ، وتعهد أنه سيجد لهما سبيلا للدخول على ابنهما ورؤيته . وذاك ما حدث فعلا ، بعد الظهر دخل الوالدان لرؤية صغيرهما ، وإن من خلف زجاج عازل ، حينما نظر سالم شعر أن لا أمل ، وحينما نظر زياد اسودّت الدنيا بين عينيه ، وحينما نظرت زهراء سقطت أرضا .. حينها كلّ أفراد عائلة زهراء بالممر، الحزن والقلق يملآن عيون الجميع .
استغرق الأمر ساعة كاملة كي تستعيد وعيها ، ولكنها كانت تود أن تستعيد فلذة كبدها ،
يا لقسوة الأيام ، طفل ينبعث في رحمها ، وآخر يوشك أن يغادر الدنيا أو غادرها فعلا ، حينما حضر الطبيب المختص قطع الشك باليقين ، وليد لن ينجو ، ما يبقيه على قيد النبض هو أجهزة التنفس لا غير ، هذا يعني أنه بحالة موت سريري . لحظتها انهار زياد تماما وبدأ ينتحب بصوت عال ، كانت لحظة موجعة لسالم ، لا يدري أيشارك صديقه البكاء أم يعزيه؟ أيّ كلمات عزاء يمكن أن تفي بالغرض ؟ هذا أب مكلوم بابنه الوحيد وهو يشعر بقرارة نفسه أنه كان سببا لذلك ، لم يجد سالم بدًّا من أن يحتضن صديقه ويمسح دموعه دون أن يدلي بكلمة واحدة ، أين يجد كلمات تناسب لحظة فراق أبدي وهو الذي لم يتجاوز فراق لولا منذ أربعة أعوام ؟ لا شيء يضاهي وجع الفقد ، ولا كلمات يمكن أن تخفف من وطأة الموت ، هكذا كان سالم يحدث نفسه ، لكنه استجمع كل جلده وصبره ، وشد على يد زياد قائلا : إنا لله وإنا إليه راجعون . عليك بالصبر يا صديقي لأجل زهراء .. لا تنس أنها حامل . لقد عوضك الله بطفل آخر .
ولكنّ الدمع من عيني زياد كان ينهمر كشلال متدفق ، ربما هو الشعور بالذنب ، أو التقصير ، "ولكنها إرادة الله ، ولا راد لمشيئته" هكذا أردف سالم وعيناه تدمعان . قد كانت ليلة عصية على النسيان ، حينما توجه زياد إلى غرفة زوجته ، طلب من سالم أن يرافقه ، كان يتهيّب الموقف ، دخل الرجلان ، كانت تقبع بوسط السرير ، ووالدتها بجانبها ، بادرتهما بالسؤال عن وليد ، ولكنها سرعان ما تبيّنت ملامحهما ، عينا زياد كانتا حمراوين من شدة البكاء ، ووجه سالم كان فضيحة مكتملة ، ملامحه كانت تشي بالبكاء والحزن ، لقد عرفت بالأمر ، وانفجر الموقف بوجه الجميع ، بكاء مستمر وحرقة وحسرة ولوم متبادل وإغماء ، كان مشهدا لا تصفه الكلمات ، مشهد للحزن الخالص ، وكان سالم يبكي بحرقة شديدة ، لم يكن يدري أكان يبكي على حال زياد وزوجته أم على حاله هو ، أم على كليهما .. كانت فرصة مناسبة للبكاء وهو الذي يحتجز دموعه منذ أمد بعيد ، يخشى أن يضعف وينهار بسبب فراق امرأة .


 
 توقيع : أحمد عدوان

حسابي على تويتر



رد مع اقتباس
 
1 1 1 2 2 2 3 3 3 5 5 5 6 6 6 7 7 7 8 8 8 10 10 10 11 11 11 12 12 12 13 13 13 15 15 15 16 16 16 17 17 17 28 28 28 30 30 30 31 31 31 32 32 32 37 37 37 38 38 38 39 39 39 41 41 41 44 44 44 45 45 45 46 46 46 47 47 47