رد: الأخلاق المذمومة في الإسلام ( متجدد )
الشراهة
معنى الشَّراهةِ لغةً واصطِلاحًا
الشَّراهةُ لغةً:
الشَّراهةُ مصدَرُ شَرِهَ؛ يُقالُ: شَرِهَ إلى الشَّيءِ وعليه: إذا اشتدَّ حِرصُه عليه، والشَّرَهُ: أسوَأُ الحِرصِ وأقبَحُه، وقيل: هو غَلَبةُ الحِرصِ .
الشَّراهةُ اصطِلاحًا:
1- قيل: (هي الانهِماكُ في اللَّذَّاتِ، والخُروجُ فيها عمَّا ينبغي) .
2- وقيل: (أن يأكُلَ نَصيبَه، ويطمَعَ في نَصيبِ غَيرِه) .
3- وقيل: (الحِرصُ على ألَّا يفوتَه شيءٌ) .
الفَرقُ بَينَ الشَّراهةِ والحِرصِ والطَّمعِ وبَينَ الشَّراهةِ والنَّهَمِ والشَّبَقِ
الشَّرَهُ: أسوَأُ الحِرصِ، والحِرصُ أشَدُّ الطَّمعِ، وأمَّا الشَّرَهُ فهو استِقلالُ الكِفايةِ والاستِكثارُ لغَيرِ حاجةٍ، وهذا فَرقُ ما بَينَ الحِرصِ والشَّرَهِ، ومتى كانت الشَّهوةُ للقُنْياتِ قيل لها: الشَّرَهُ؛ سواءٌ كان مالًا أو طعامًا أو نِكاحًا، ومتى كانت للطَّعامِ قيل لها: النَّهَمُ، فإذا كانت للنِّكاحِ قيل لها: الشَّبقُ .
ذم الشراهة والتحذير منها
أ- مِن القرآنِ الكريمِ
وردَت عدَّةُ آياتٍ في ذمِّ الشَّراهةِ:
1- قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ [محمد: 12] ، أي: إنَّهم يأكلونَ بالشَّرَهِ والنَّهَمِ كالأنعامِ؛ لأنَّهم جُهَّالٌ يأكلونَ للشَّهوةِ فقط .
2- قال تعالى: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 42] ، كأنَّ بالمُستَرشي وآكِلِ الحرامِ مِن الشَّرَهِ إلى ما يُعطى مِثلَ الذي بالمسحوتِ المَعِدةِ مِن النَّهَمِ والشَّرَهِ إلى الطَّعامِ، فلا يشبَعُ أبدًا .
3- قال تعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة: 273] ، أحسَن الثَّناءَ عليهم بنَفيِ الشَّرَهِ عنهم .
4- قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج: 19] ، قيل: هو الشَّرِهُ الحريصُ الذي لا يشبَعُ مِن جَمعِ المالِ .
5- قال تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف: 20] .
قال الحليميُّ: (هذا الوعيدُ مِن اللهِ، وإن كان للكُفَّارِ والذين يُقدِمونَ على الطَّيِّباتِ المحظورةِ؛ ولذلك قال: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ، فقد يُخشى مِثلُه على المُنهمِكينَ في الطَّيِّباتِ المُباحةِ؛ لأنَّ مَن تعوَّدها مالت نَفسُه إلى الدُّنيا، فلم يُؤمَنْ أن يرتَبِكَ في الشَّهواتِ والملاذِّ، كُلَّما أجاب إلى واحِدةٍ منها دعَته إلى غَيرِها، فيصيرُ إلى ألَّا يُمكِنَه عِصيانُ نَفسِه في هوًى قطُّ، وينسَدُّ بابُ العِبادةِ دونَه، وإذا آل به الأمرُ إلى هذا لم يبعُدْ أن يُقالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ، فلا ينبغي أن تُعوَّدَ النَّفسُ بما يميلُ بها إلى الشَّرَهِ، ثُمَّ يصعُبُ تدارُكُها، ولْتُرَضْ مِن أوَّلِ الأمرِ على السَّدادِ؛ فإنَّ ذلك أهوَنُ مِن أن يَدْرَبَ على الفسادِ، ثُمَّ يجتهِدَ في إعادتِها إلى الصَّلاحِ. واللهُ أعلَمُ) .
ب- مِن السُّنَّةِ النَّبويَّةِ
وحذَّر النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن الشَّراهةِ في غَيرِ مَوطِنٍ:
1- عن حكيمِ بنِ حِزامٍ رضِي اللهُ عنه، قال: ((سألْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأعطاني، ثُمَّ سألْتُه فأعطاني، ثُمَّ سألْتُه فأعطاني، ثُمَّ قال لي: يا حكيمُ، إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوةٌ، فمن أخذَه بطيبِ نَفسٍ بورِك له فيه، ومَن أخذَه بإشرافِ نَفسٍ لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكُلُ ولا يشبَعُ، واليدُ العُليا خيرٌ مِن اليدِ السُّفلى)) ، قولُه: ((بإشرافِ نَفسٍ)) أي: بتطلُّعٍ وحِرصٍ وشَرَهٍ إليه ؛ ففي هذا الحديثِ ذمَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحِرصَ والشَّرَهَ إلى الاستِكثارِ، وشبَّه فاعِلَ ذلك بالبهائِمِ التي تأكُلُ ولا تشبَعُ، وهذا غايةُ الذَّمِّ له؛ لأنَّ الأنعامَ لا تأكُلُ لإقامةِ أرماقِها، وإنَّما تأكُلُ للشَّرَهِ والنَّهَمِ .
وقيل: المُرادُ بقولِه: ((كان كالذي يأكُلُ ولا يشبَعُ)): أنَّ سبيلَه في ذلك إذا أُعطِي عن حِرصٍ وشَرَهٍ، فسبيلُه في ذلك سبيلُ مَن يأكُلُ مِن ذي سَقَمٍ وآفةٍ، يأكُلُ فيزدادُ سَقمًا، ولا يجِدُ شِبَعًا؛ فيَنجَعَ فيه الطَّعامُ .
وفي حديثِ مُعاوِيةَ بنِ أبي سُفيانَ رضِي اللهُ عنهما، قال: ((سمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ... ومَن أعطَيتُه عن مسألةٍ وشَرَهٍ كان كالذي يأكُلُ ولا يشبَعُ)) .
2- عن نافِعٍ قال: ((كان ابنُ عُمرَ لا يأكُلُ حتَّى يُؤتى بمِسكينٍ يأكلُ معَه، فأدخَلْتُ رجُلًا يأكُلُ معَه، فأكل كثيرًا، فقال: يا نافِعُ، لا تُدخِلْ هذا عليَّ، سمعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: المُؤمِنُ يأكُلُ في مِعًى واحِدٍ، والكافِرُ يأكُلُ في سبعةِ أمعاءٍ)) !
يعني أنَّ الكافِرَ لا يُشبِعُه إلَّا مِلءُ أمعائِه السَّبعةِ؛ لأنَّه يأكُلُ بشراهةٍ وشهوةٍ، وحِرصًا للَّذَّةِ، وجَريًا على ذميمِ العادةِ، والمُؤمِنُ يُشبِعُه مِلءُ مِعًى واحِدٍ؛ لأنَّه يأكُلُ بُلغةً وقُوتًا عندَ الحاجةِ .
3- ومِن دُعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن نَفسٍ لا تشبَعُ)) ، وهو استِعاذةٌ مِن الحِرصِ والطَّمعِ والشَّرَهِ .
4- عن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما، قال: ((سمعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: لو كان لابنِ آدَمَ واديانِ مِن مالٍ لابتغى ثالثًا، ولا يملَأُ جَوفَ ابنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويتوبُ اللهُ على مَن تاب)) ، أشار عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بهذا المَثَلِ إلى ذمِّ الحِرصِ على الدُّنيا، والشَّرَهِ على الازديادِ منها .
(ومعنى ((لا يملَأُ جَوفَه إلَّا التُّرابُ)) أنَّه لا يزالُ حريصًا على الدُّنيا حتَّى يموتَ ويمتلِئَ جوفُه مِن تُرابِ قَبرِه! وهذا الحديثُ خرَج على حُكمِ غالِبِ بني آدَمَ في الحِرصِ على الدُّنيا، ويُؤيِّدُه قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ويتوبُ اللهُ على مَن تاب))، وهو مُتعلِّقٌ بما قَبلَه، ومعناه: أنَّ اللهَ يقبَلُ التَّوبةَ مِن الحِرصِ المذمومِ وغَيرِه مِن المذموماتِ) .
ج- مِن أقوالِ السَّلفِ والعُلَماءِ
وممَّا ورَد عن أهلِ العِلمِ في التَّحذيرِ مِن الشَّراهةِ، والثَّناءِ على مَن تنزَّه عنها:
1- قال عليُّ بنُ أبي طالِبٍ: (الشَّرَهُ جامِعٌ لمساوي العُيوبِ) .
2- قال بعضُ أهلِ العِلمِ: (مِن أخلاقِ إبليسَ: شَراهةُ النَّفسِ ونَهْمتُها، وأخذُ ما ليس لها) .
3- لقِي عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ كَعبَ الأحبارِ عندَ عُمرَ، فقال: يا كَعبُ، مَن أربابُ العِلمِ؟ فقال: الذين يعمَلونَ به، قال: فما يُذهِبُ العِلمَ مِن قُلوبِ العُلَماءِ بَعدَ إذ عقَلوه وحفِظوه؟ قال: يُذهِبُه الطَّمعُ، وشَرَهُ النَّفسِ، وتطلُّبُ الحاجاتِ إلى النَّاسِ. قال: صدَقْتَ .
4- عن الحَسنِ قال: قال لُقمانُ لابنِه: (يا بُنيَّ، لا تأكُلْ شِبَعًا فوقَ شِبَعٍ؛ فإنَّك إن تنبِذْه للكَلبِ خيرٌ مِن أن تأكُلَ شِبَعًا فوقَ شِبَعٍ!) .
5- قالت أمُّ زَرعٍ تمدَحُ ابنَ أبي زَرعٍ: (ويُشبِعُه ذِراعُ الجَفرةِ) ، وهي الأنثى مِن أولادِ الغَنمِ، والعربُ تمدَحُ بقلَّةِ الطَّعامِ .
6- قال القاضي عِياضٌ: (ولم تزلِ العربُ والحُكَماءُ تتمادَحُ بقلَّةِ الأكلِ والشُّربِ؛ لأنَّ كثرتَهما دليلٌ على النَّهَمِ والحِرصِ والشَّرَهِ. وغَلبةُ الشَّهوةِ مُسبِّبٌ لمضارِّ الدُّنيا والآخِرةِ، جالِبٌ لأدواءِ الجَسدِ، وقِلَّتُه دليلٌ على القناعةِ ومَلْكِ النَّفسِ. وقَمعُ الشَّهوةِ مُسبِّبٌ للصِّحَّةِ وصفاءِ الخاطِرِ وحدَّةِ الذِّهنِ) .
7- قال النَّوويُّ: (قلَّةُ الأكلِ مِن محاسِنِ أخلاقِ الرَّجلِ) .
8- قال ابنُ المُقفَّعِ: (ولا يزالُ صاحِبُ الدُّنيا يتقلَّبُ في بليَّةٍ وتَعبٍ؛ لأنَّه لا يزالُ بخَلَّةِ الحِرصِ والشَّرَهِ) .
9- قيل لحكيمٍ: (فما آلةُ الطَّمعِ وجِماعُ آفاتِه؟ قال: الشَّرَهُ والحِرصُ وهَيَجانُ الرَّغبةِ) .
10- قيل: (لا يوجَدُ الشَّرِهُ غنِيًّا) .
11- قال الماوَرديُّ: (أربعةُ أخلاقٍ ناهيك بها ذمًّا، وهي: الحِرصُ، والشَّرَهُ، وسوءُ الظَّنِّ، ومَنعُ الحُقوقِ) .
12- وقال بعضُ الحُكَماءِ: (الشَّرَهُ مِن غرائِزِ اللُّؤمِ) .
13- قيل: (الفقرُ شَرَهُ النَّفسِ) .
14- قال الحكيمُ التِّرمِذيُّ: (إذا شرِهَت النَّفُس طلبَت التَّفسُّخَ والتَّوزُّعَ في الأمورِ، والتَّلذُّذَ بالبَطالاتِ) .
15- جاء داودَ الطَّائيَّ بعضُ أصحابِه بألفَي دِرهَمٍ، قال: (يا أبا سُلَيمانَ، هذا شيءٌ جاءك اللهُ به لم تطلُبْه ولم تَشرَهْ له نَفسُك، قال: إنَّه لمِن أمثَلِ ما يأخُذونَ، قال: فما يمنعُك منه؟ قال: لعلَّ تَركَه أن يكونَ أنجى!) .
قال ابنُ بطَّالٍ: (آثَر أكثَرُ السَّلفِ التَّقلُّلَ مِن الدُّنيا، والقناعةَ والكَفافَ؛ فِرارًا مِن التَّعرُّضِ لِما لا يُعلَمُ كيف النَّجاةُ مِن شرِّ فِتنتِه) .
16- قال ابنُ القيِّمِ: (وكثيرٌ مِن أربابِ الأموالِ إنَّما قتلَتْهم أموالُهم؛ فإنَّهم شَرِهوا في جَمعِها، واحتاج إليها غَيرُهم، فلم يَصِلوا إليها إلَّا بقَتلِهم، أو ما يُقارِبُه مِن إذلالِهم وقَهرِهم) .
17- قيل: (تَركُ الشَّرَهِ في كَسبِ الحلالِ) .
( يتبع )
|